موسكو هنا ليس اسم مكان، ولا هو أيضا بعاصمة روسيا، ولا اسم بئر أو فلج في سرور، ولا هو اسم عقْبة في مطرح الأمس، ولا اسم شارع أو حانة في مسقط اليوم. السيد موسكو ترجمة لعنوان هذا النص في روسيا ومسقط آدمي بروح وضمير وحب كبير من بني وطني. خذلته النّيّة الطيبة، والنداء الحسن، ثم بعد سنوات قليلة جدا، تكاد لا تتعدى تلك السنوات القليلة أصابع اليد اليمنى، وإن أردنا العدّ يقينًا مائة في المائة فلا بأس إن زادت عجينة الخلق وطينته، لتصير الأصابع ستا أو سبعا، ثم وجد موسكو نفسه معطّلا عن العمل. يا إلهي ما أعانت مسقط موسكو! فأصبح العماني الموسكوي بلا وظيفة في بلاد نادته مع من نادت، إبّان الربيع، في خطة ممنهجة لإرجاع حاملي الشهادات العليا، من المثقفين والكتاب، وإغرائهم بمسميات وظيفيّة فيها من التضخيم والوهم ما فيها، ” خبير/ مستشار” ولا أحد يستشيره، ثم يبدأ الكرسي- محظوظ من وجده- يخضع مقدراتِ الآئبين للذوبان في بلاد عشقوها، كما يعشق الرجل المخلص نصفه الآخر.
هل وفّق المدخل السابق في تأطير الفكرة التي تسمح بالكتابة عن أحمد الرحبي، عن أحمد محمد الرحبي، عن أحمد موسكو، عن موسكو؟
موسكو هذا كاتب، عرفناه هكذا، نتاجه الأدبي خير دليل وشاهد على ما يمكن نعته به، بل إنه أكثر من ذلك، يسمح النتاج المنشور لموسكو إضافة نعت آخر أيضا، أقول وأكتب إن موسكو هذا مُتَرْجِمٌ، يجيد فن الترجمة باحتراف عالٍ، مع القلة ممن يجيدونها باقتدارٍ أدبي، فهو مترجم إلى اللغة العربية من لغة تشيخوف، انتقام تشيك الرهيب وقصص أخرى نموذج أصيل في فن ترجمة الأدب الروسي المعاصر، هنا باحتراف محب تتجلى جماليات الترجمة وحسن اختيار النموذج الجميل من كتّاب الأدب الروسي، القصة في روسيا نموذجا، إن كان الإصدار حديثا فلموسكو مقالات ونصوص تاريخية قديمة ومهمة أيضا، نقلها من تلك اللغة إلى اللغة الرسمية لهذه البلاد، من ذلك ومما في ذاكرة متابعاتي لموسكو منذ سنوات كثيرة لي أن أتذكّر الآن، وأذكّر قرائي وقراء موسكو بنصوص ومقالات عديدة منشورة في أكثر من مكان، وفيها ما هو مهم أيضا، إذ إن له ترجمة مهمة عن أسد البحار وسيدها الكبير أحمد بن ماجد، نُشرت قبل سنوات في ملحق شرفات الثقافي، المعدوم اليوم برصاصة مسؤول، لا يبالي بالثقافة، غير معني بها بصفتها أسلوب حياة ومنهج، ولا بالمثقفين كبشر، لا يعنيه الأدب والفن والجمال، لا يهتم بتاريخ المكان والإنسان؛ إلا إن ذكّره أحد الجيران بأعلام كانت هنا، قبل مئات السنين، أما اليوم فإرثهم ونتاجهم وكل ما تركوه صار إرثًا ونتاجًا عربيًا.
أحمد موسكو هذا قاص وروائي، له في الجنسين أعمال منشورة، ظل مشاركا لسانحات يعبرن كفرص يشارك فيها أفراح بلاده وأعراسها الموسميّة في الثقافة، إذ نشر موسكو أول مجموعة قصصية له إبان عرس مسقط الثقافي ألفين وستة ميلادي، مجموعته الأولى ” أقفال”، كانت العديد من قصصها تنضح بإبداع إنساني يصوّر ألم الإنسان وصروف دهره هذا، وقصص تحمل روائح من القرية المتخيلة أيضا، هذا ما يمكن المرور عليه الآن، وتذكير القارئ بالقصص القصيرة، إن لم يقرأ أقفال موسكو فليقرأها إن وجد نسخة في أي مكان، أو يمكنه قراءتها من المكتبة الوطنية المنتظرة منذ عقود في مسقط.
بعدها خاض موسكو غمار تجربة الكتابة في الرواية، فنشر روايته الأولى ” الوافد” كان انعكاسه فيها بيّنًا، بالأحرى، الأوفى والأقرب دقة، انعكاس شخصية روايته الأولى بصفته وافدا؛ إذ الشخصية الرئيسة المتخيلة في روايته وافد على هذه البلاد، بعد خمس سنوات من نشر رواية الوافد أثبتت أيام الحياة القصيرة جدا أن موسكو عابر كوافد مغترب لهذه البلاد، لا يمكن إلا أن يكون وافدا بلا وظيفة؛ لرفضه قبل سنوات عرضًا مغريًا يحيل موسكو إلى ثري متخم مال ودنيا. هل كان موسكو يقرأ نفسه في تلك الرواية؟ أيصوّر ما يمكن أن يصير إليه حاله، ولو بعد حين من الدهر؟
من هنا أيضا يمكن الإشارة إلى أن موسكو قريب من ذاته وروحه، بعيد إلى حد ما عن الآخرين، منعزل ومنزو، صامت في اللقاء الأول، ضاحك في اللقاء الثاني، حكّاء في اللقاءات اللاحقة، تلك التي وصلت متأخرة في زمن المحنة.
أمل موسكو عمل يعينه على سداد متطلبات حياة قادرة على الوفاء بالقسط الأسري، وسدّ التزامات الطفلين المتشبث بهما، نزاروف، وآدموف، هكذا ترى اللغة الروسية اسم الطفلين، كأني الآن أضحك يا موسكو من فرط العجز ليلا وأنا أتعثّر في محاولة أتهجى فيها اسم الطفل الأول، باللغة الروسية كما في الوثيقة الرسمية نزار أحميدوفيتش.
بما أن موسكو قريب جدا من أي مكان يفتح له العيش نافذة للحياة فسيجد قراؤه مكان معيشه في سرد يكتبه، لكأني أذكّر الآن بالجدة نينا، رواية موسكو الثانية، هي واحدة في خانة أجمل روايات العمانيين القليلة جدا، فيها تتجلى موسكو الإنسان، ومن خلالها تظهر براعة موسكو في حبكات فن السرد كذلك.
فنّيا الجدة نينا، عكس الوافد تماما، لعل الذات هناك في الرواية الأولى كانت منكمشة على الداخل، تظهر لغتها أكثر مما تظهر شخصيتها، لذلك ستأتي الوافد الأقل حظا في علو قدر وشأن الجمال الفني، يمكن القول عن روايتي تجربة موسكو إن الروايتين روايتا أدب سيرة إلى حد ما، حال الجدة نينا في الأدب العربي بعُمان كحال همس الجسور لعلي هلال.
موسكو هذا كان حالما، هناك في موسكو كان حرا طليقا، خفيفا كعصفور وهو يخوض غمار تجربة الإعلام المرئي عبر قناة روسيا اليوم. ماديًا كان ذا دخل عال وامتيازات، تكرّم بها المؤسسات القديرة موظفيها وعمّالها؛ ليشعروا بالولاء ليس للمال أبدا؛ لأن المال لا يبني ولاء دائما، ولاء المال لحظي عابر كمصلحة مرّت في الزمن. ولاء موسكو لروسيا اليوم كان مطلقا ومفتوحا لحب العمل والإخلاص فيه، ولاء كهذا وحده القادر على ضخّ كميات وأطنان من الإنتاج والإبداع في أي مجال نترك فيه مبدعا، ميزته وخصلته الإخلاص والحب.
تحت تصرف موسكو وفريقه في قناة روسيا اليوم إمكانيات عالية، مادية ومعنويّة؛ الأولى ليتنقل إلى أي بلد يشاء الظرف والحدث؛ مغطيا أحداثا وأفلاما وتسجيلات، وما يمكن تغطيته عن ثقافة بلدان زارها من هناك برفقة طاقم معدّ وجاهز بآلاته ومعداته، والثانية معنويّة، تتمثّل في إمكانيات تحفيز ودعم مباشر من الإدارة، لا توجيه ولا منع من رقيب وحسيب، الإبداع وحده الرقيب الوحيد، الفن وحده الموجّه الأعلى للفريق المسافر إلى أكثر من بلد وآخر، من بينها للتمثيل لي أن أتذكّر الآن زيارتين؛ مما في ذاكرتي عن فريق قناة روسيا اليوم الثقافي، واحدة كانت للمغرب، والأخرى هنا لسلطنة عُمان، أما في ذاكرة موسكو فبلدان وبلدان.
سيفرّط أحمد بالنعمة، سينقمها، سيرضخ لدغدغة العرض المغري، العرض الواهم الواهن، القصير كحبل كذبة زائلة في إبريل، ها هو فعلا يفعلها ويعود. لا يا موسكو، كأني أسمعك الآن من موسكو تحدّث نفسك، تلومها لأنك آمنت مصدقا بما هو أفضل وأفضل، نحن قلنا معك أهلا وسهلا بك، بين أهلك وأحلامك وأمانيك، نزلت مطبًا وحللت ذكرى، ومن منّا لا يحب أن يرى من يحب؟ يعود موسكو لمسقط، يترك موسكو موسكو. بعد الفاعل مفعول لا ينصب للتعذر، لكن النص عمدا لضرورة الحُبّ يكاد يرفع محبوبه، على غرار ما يقال في الشعر وضروراته الفنية التي قد تكسر اللغة أوزانه، وتكسّر قاعدته للضرورة الشعرية. أحب هكذا ضرورات، ألعب بها وألاعبها في الكتابة عن الإنسان الذي أحب.
ستلتقط الهيئة اللقيا الثمينة، اللقيا النادرة، قطعة ذاهب مصاغة بعناية صائغ يملك من الجاهزية والاحترافية ما يمكّنه من إعداد إعلامي محب للإنتاج الثقافي وثائقيا ودراميا، وبما أن الرؤية العليا غير واضحة المعالم، ودربها غير بيّن كذلك، فسيتم الموضوع وديا شفويًا بين اثنين، بين صديق وصديقه، بين موسكو ورئيس الهيئة، لكن لا بأس من عقدٍ يسمي الوظيفة، يعلن مدة التعاقد الزمني، يظهر الأجر الشهري، وعلى بركة الله يبدأ موسكو الدرب الغامض.
يتمثّل الغموض في عقد ينتهي ويجدد، وعقد آخر كذلك، تتجدد العقود بإمضاء وآخر بين الطرفين المتعاقدين، يطالب موسكو متمنيا بغير ذي مساءلة قانونية توظيفا رسميا كالبشر، حاله كحال أي عماني يعمل في مؤسسات حكومته الرشيدة. الطيبة الزائدة عن الحد بحبة أو حبّتين ترخي همة التوجه للقضاء في مسقط، تأتي مطالبات التوظيف بهدوء وتروّ، قليل من إلحاح شفوي غير جاد تقريبا، هكذا أقدر وضع ما حدث لموسكو في مسقط، من هنا أيضا ما استطاع أن يطرق باب أي بنك للسلفة والمديونية؛ فالتوظيف غير رسمي، أي بنك يمكن أن يقرض روحا بشرية بلا أي رسمية في الوظيفة بجهة حكومية؟ هنا فعلا لكأن موسكو هو الوافد في روايته الأولى، كأنه كذلك رغم اختلاف بعض عوالم المتخيّل النصي في الوافد، وهنا في نص السيد موسكو، لكن الكتابة والحالة التي كان عليها أحمد الرحبي، أحمد محمد، أحمد موسكو، تسمح لي بتأكيد أمر مُرٍ كهذا، أقول كأن موسكو وافد روسي قادم من تلك البلاد، يعمل في إحدى المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الخاصة بالإنتاج الإعلامي، والعقد نتاج طبيعي بين العامل الوافد والمؤسسة المستقدمة للأجنبي القادم للعمل من أي بلد في الدنيا، إلى بلد نحبها أكثر من أم ترْحَلُ عن ابنها تاركة له أرض وطن يحبها وهو على ترابها، يحبها من قريب في مسقط، يحبها من بعيد في موسكو.
موسكو هذا عماني، ابن بلاده ووطنه وأرضه، لم يكن ذا مطلب كبير، كان يأمل أن لا تمس خبزته، وجبنة ولديه الصغيرين، كان يرجو القدر أن يتم تثبيت عجينة الخبز بتوظيف رسمي؛ أسوة بأي عماني آب لبلاده، أو أوّبته البلاد إليها، لكن بدا أن الصغيرين ” نزارتشيك، وآدامتشيك لن يتكمنا في طفولتهما من شراء جبنة الأطفال من أي بقالة في مسقط، كما لن يحبّا بطاطس عُمان أسوة بأبيهما، يوم أن كان صبيّا يرعى الأحلام في مطرح.