هل يوجد مكان آخر في العالم المعاصر اليوم يحدث فيه ما يحدث في فلسطين؟! وهل توجد دولة تفعل ما تفعله إسرائيل من صناعة ممنهجة للكراهية والعنف عبر ما تفعله بالفلسطينيين من حكم عسكري وجدار فصل عنصري ونقاط تفتيش وحصار وقصف مستمر وقتل واغتيال وسجن واستهداف وعزل وإهانة يومية مستمرة منذ عقود؟! حتى أصبحت تلك هي السمة الشخصية لإسرائيل.
ألا تثبت إسرائيل عبر تاريخها المعاصر أنها دولة مؤسسة على العنف والانتقام؟ ألم تتخصص إسرائيل في صنع الكراهية وبثها فيمن حولها، وفي العالم؟ بل وأصبحت إسرائيل تتاجر بالكراهية مع أوروبا وأمريكا كي تحصد سنويًا مليارات الدولارات والمساعدات العسكرية والأمنية المتطورة مقابل إدامة الصراع، وأي صراع هذا الذي لا تنطبق عليه أبسط شروط الصراع؟!
ما الذي تفعله إسرائيل غير تحويل ما تفعله بالفلسطينيين العزل المحرومين من أبسط شروط الحياة الإنسانية إلى مصدر دخل قومي سنوي، من يتاجر بالكراهية والعنف كما تفعل إسرائيل اليوم؟ ومن يحول حياة ملايين المدنيين داخل الأراضي التي تحتلها إلى عذاب يومي؟ ومن يشرد ملايين غيرهم خارج وطنهم في المنافي والمهاجر المختلفة؟
وأين نجد في العالم مدينة محاصرة كغزة؟ وسجنًا كهذا السجن الغزّاوي؟ فهل نستغرب بعدها إذا انفجر الوضع وتبنت المقاومة استراتيجية إعادة تصدير ذلك العنف في أبسط معادلات ردات الفعل، لنجد إسرائيل كعادتها تنتظر، كمفترس يتربص بأدنى حركة من فريسته، وبعد أن صنع كل الشروط اللازمة لولادة العنف المضاد المتوارث عبر الأجيال، تقوم بالرد الفوري بالدمار الهائل والقتل الذريع وزراعة الكراهية بالقذائف.
ها هي إسرائيل أعلنت الحرب على غزة كلها؛ لأن حركة حماس قامت بهجوم خلف قرابة ألف قتيل وربما ما يزيد عن مئة أو مئتي أسير، فيما عدَّته الأوساط العربية الشعبية نصرًا جديدًا يؤذن بالنهاية؛ لكن في نهاية المطاف على من تعلن إسرائيل الحرب وتعد العدة وتجهز الجيش الجرار؟ وفوق من تحوم طائراتها النفاثة وتسقط قذائفها الفسفورية مخلفة الدمار والضحايا من النساء والأطفال والشيوخ والعجائز؟ على من تعلن إسرائيل الحرب؟ على سجنائها؟! على من جوعتهم وحاصرتهم ومنعت عنهم الماء والطعام والكهرباء؟ لا لشيء إلا لتتفنن في مواصلة عملية التنكيل بالعرب كلهم، وكأنما الفلسطينيون الذين بقوا في وطنهم هم أداة تعذيب وانتقام وتشفي وتفريغ كراهية، وكأنما الفلسطينيون هم وسيلة إهانة لبقية العرب والمسلمين، وكأن حياة الإنسان الفلسطيني ووجوده لا يساوي في نظر إسرائيل وحلفائها شيئًا أكثر من وسيلة لصناعة وتصدير الكراهية والرعب والعنف والاتجار بها في الداخل والخارج، رغم ذلك ها هو الفلسطيني يتحول إلى رمز عالمي لضمير العالم، وها هي كوفيته على رأس من لا قرابة لهم به، وها أشعاره وأغانيه تتردد أصداؤها في العالم كله.
ونحن نحاول السلام؛ ولكن لو حدث السلام المزعوم حقًا ماذا ستفعل إسرائيل بمخزونها من الكراهية والانتقام وأين ستصرّفه؟ وكيف يمكن أن يحدث مثل هذا السلام وإسرائيل لم تفعل طوال العقود الماضية شيئًا آخر سوى تدمير كل بارقة أمل؟ هي الغارقة في الدم والقتل والاغتيال والترويع والتشريد والهدم حتى أصبحت أشهر قاتلة محترفة في العالم المعاصر، كيف لإسرائيل التي لا تعرف غير الزي العسكري تلبسه أمام العالم أن تبدل جلدها؟ وكيف لتل أبيب وهي نار الربيع الصهيوني الذي أحرق يافا أن يتقن شيئًا آخر يمنحه للعالم غير السلاح والنار والموت والكراهية؟
لكن التناقض الطبيعي أن تاجر الموت هو أكثر من يخاف الموت، وأن من يتمترس خلف الأسلحة الفتاكة والمدرعات يفضح خوفه الشديد ورعبه الداخلي، وأن إسرائيل حتى وهي تدعي أنها وريثة الاستعمار والكولونيالية الغابرة لا تتقن من تلك الكولونيالية البغيضة غير وجوهها البشعة، ولا تصدّر غير العنف الشديد وإشعال الفتن، ولا تهدي جيرانها غير قذائف الكراهية والموت، إسرائيل التي ما زالت عاجزة عن إقامة حياة طبيعية حتى لشعبها الذي تدعي حمايته، هي التي تدعي أنها تحمي شعبها عبر قتل الآخرين وسلب أرواحهم، وهي التي لم تتخل يومًا عن حياة الحرب، وهي التي تستغل كل خلاف في محيطها العربي وكل نقطة ضعف لإشعال النار في الجميع، وهي التي تلد بأصوليتها وإرهابها وعنفها المغرور كل عنف وإرهاب وأصولية في المنطقة كردة فعل، هي التي يقبع في سجونها آلاف الفلسطينيين الذين حرمتهم من أبسط حقوقهم، وتعمل بكل وقاحة لإفشال إقامة أي كيان يجمعهم ودولة تلم شتاتهم وتغريبتهم.
هذه هي صناعة الكراهية التي توغلت في ظلاميتها حتى تكاد تقضي عليها، فهل نستغرب أن يتنبأ الجميع بسقوطها؟ وهل تفعل إسرائيل شيئًا آخر في حاضرها غير تدمير مستقبلها ومستقبل كل يهودي في العالم بأسره؟