شاعر اليمن الكبير عبد الله البردوني

ربع قرن على رحيل شاعر اليمن الكبير عبد الله البردوني ـ

” البردوني اُعْتُبِرَ مجددّا في الشعر العربي المعاصر كما أبي تمام مجددا في عصره ولذلك لقّب بأبي تمام العصر”

 ـ  للبردوني رأي  في موضوع تشبيهه بأبي تمام قاله لي وهو: لا أظن أن الشعراء متشابهون أبداً لسبب واحد وهو أنّ الشعر صوت النفس ـ والنفوس لا تتشابه كما تتشابه ملامح الوجوه؟

ـ ويرى البردوني أنّ اللفظة تتجدد بفضل ما فيها من نظرية المعنى فليس هناك لفظة ذات قيمة بمفردها أو لمفردها..

 ـ كتب الشعر العمودي المعاصر كأسلوب وطريق اخطته لحياته الشعرية ولكنه اعتبر أن قصيدة التفعيلة وريث شرعي للقصيدة التقليدية.

مسيرة عبدالله البردوني:

 قبل خمسة وتسعين عاماً ولد شاعر اليمن الكبير(عبد الله البردوني) في 1يناير 1929ـ وتوفي في 30أغسطس 1999م أي قبل ربع قرن، ومنذ بداية حياته الأدبية والشعرية اختطَّ الشاعر البردوني طريقاً وأسلوباً لم يتخلّى عنه وهو النمط العمودي في قصائده بالرغم من انفتاحه على المدارس الشعرية الأخرى وعدم رفضه لها، كما كان له دراسات وكتب أدبية نقدية وتاريخية وتراثية تناولت الأدب والشعر العربي واليمني والتراث اليمني بشكل خاص.

 والشاعر(الضرير)البردوني وُلِدَ في قرية(بردون)في ذمار اليمنية في الأول من شهر يناير عام 1929م ـ أي قبل خمسة وتسعين عاماً ـ وإليها يُنْسَبْ لقبه واسمه الكامل(عبد الله بن صالح حسن الشحف البردوني) ـ حيث أصيب في صغره بمرض الجدري وهو بعمر الست سنوات وفقد على أثره بصره ـ ولكن لم يقف فقدان البصر عائقاً في توهج بصيرته فأعطت عبقرية شعرية فذّة، حيث قدّم للمكتبة العربية أكثر من تسعة دواوين شعرية وهي:(من أرض بلقيس ـ في طريق الفجر ـ مدينة الغد ـ لعيني أم بلقيس ـ السفر إلى الأيام الخضر ـ وجوه دخانية في مرايا الليل ـ زمان بلا نوعية ـ ترجمة رملية لأعراس الغبار) وكانت آخر دواوينه الشعرية(كائنات الشوق الآخر)وقد صدرت أعماله الشعرية الكاملة في مجلدين. كما أصدر عدداً من المؤلفات البحثية والنقدية ومنها(فنون الأدب الشعبي في اليمن ـ أشتات ـ اليمن الجمهوري ـ رحلة في الشعر اليمني ـ قضايا يمنية ـ الثقافة الشعبية تجارب وأقاويل يمنية وغيرها).

 وقد كتب عن البردوني وشعره وأدبه وأسلوبه المجدد في الشعر العربي المعاصر العديد من الأدباء والنقّاد ومازالت تصدر الكتب عن حياته وشعره ومنها كتاب(البردوني حياته وشعره) للدكتور (أحمد عبد الحميد إسماعيل)- أستاذ الأدب العربي في كلية الدراسات العربية والإسلامية في جامعة القاهرة ـ حيث أكّد في كتابه أن التجديد في شعر البردوني هو التفرد الحقيقي الذي باغتنا به هذا الشاعر، ففي الإطار التراثي، تنساب تقنيات الشعر الحديث بمذاهبه الأدبية المتعددة، على مستوى الإيقاع واللغة والأسلوب والصورة، فنلمح أبعاداً عبثية ووجودية ورمزية وسريالية، لا تضيق عنها أوزان الخليل ولا تعجز البردوني حين يرتحل بحروفه من عالمه الذاتي إلى عالم الحياة الأرحب؟!..

التجديد لدى البردوني. 

 لقد اعتبر نقّاد الشعر العربي والباحثون في مجال الأدب والشعر(البردوني)مجدّداً في عصره كما كان الشعر(أبو تمام)مجدداً في عصره وأطلقوا على البردوني(أبو تمام العصر)وحول هذا التشبيه ذكر البردوني في أكثر من لقاء صحفي معه وفي لقاء لي معه أجريته عند زيارة البردوني إلى مدينة اللاذقية السورية للمشاركة في مهرجان تشرين الشعري قبل حوالي أربعين عاما(في أكتوبر ـ تشرين أول 1983) قال البردوني(لا أظن أن الشعراء متشابهون أبداً لسبب واحد وهو أنّ الشعر صوت النفس ـ والنفوس لا تتشابه كما تتشابه ملامح الوجوه؟.. )وأضاف البردوني: إذا كان هناك تشابه بيني وبين أبي تمام أي هناك فروقاً فعندما نقول: وجه الحلوة كالشمس، يعني ذلك في البهاء، وليس في كل المزايا، في الحرارة والعلو والانبساط على الدنيا، فالمشابهة في وجه واحد وهذه المشابهة ذكرها النقّاد في قضية التجديد وأبو تمام لم يكن مجدداً لوحده، فقد جددَّ معه ابن الرومي وأبو النواس وبشار وأبو العتاهية كذلك عاصره شعراء مجددون مثل عبد الصمد ابن المفضل وعلي ابن الجهم وأتى بعده بقليل البحتري ـ وأبو تمام موجة من نهر كبير ـ كما يصفه البردوني؟..

 ولكن يبقى البردوني مجدداً بالفعل في الشعر العربي في عصرنا الحالي وهنا يقول: اللفظة تتجدد بفضل ما فيها من نظرية المعنى فليس هناك لفظة ذات قيمة بمفردها أو لمفردها، فلو أخذنا كلمات مثل: ورود، رياحين، شواطئ، إعصار، بساتين، إلخ.. فكل كلمة من هذه جميلة، ولكن قيمة الكلمة فيما يشّع فيها من نظرية المعنى ثم موضعها في البنيان الشعري، فلو كانت العين في غير مكانها فليس لها قيمة فالقضية قضية صياغة عامة، فاللفظة جميلة لكن الذي يجعلها أكثر جمالاً هو وقوعها في موقعها كهندسة الأعضاء في الجسم.. وأنا أجددّ في هذا المنحى؟!..

 ويبدوا أن البردوني تأثّر بالفعل برأي النقاد حول مقارنته بأبي تمام فقام البردوني بنظم قصيدته الشهيرة التي عارض فيها قصيدة أبي تمام(السيف أصدق إنباء من الكتب  في حده الحد بين الجدّ واللعب)فكتب البردوني قصيدته تلك قائلاً بمطلعها:

  ما أصدقَ السيف إنْ لم ينْضِهِ الكذِبُ   وأكذبَ السيف إن لم يصدق الغضبُ

 حيث ألقاها في مهرجان أبي تمام الشعري في مدينة الموصل العراقية قبل حوالي نصف قرن وبحضور شعراء كبار كنزار قباني وعبد الوهاب البيّاتي حيث أدهش الجمهور كما الشعراء بروعتها فوقف الجميع مصفّقاً له لأكثر من عشر دقائق وفاز البردوني بها بمهرجان أبي تمام متفوقاً على الشعراء المشاركين في مسابقة المهرجان.

شعره الغنائي.

 عندما جاءنا البردوني في اللاذقية قبل أربعين عاماً وصعد إلى خشبة مسرح سينما الكندي في شارع هنانو والتي احتضنت أمسيات المهرجان في أيامه الثلاثة بمشاركة شعراء عرب كثر كان في مقدمَتهم الجواهري والبردوني.. احتشد الجمهور داخل القاعة وحتى خارجها حيث نُصِبَتْ مكبرات الصوت في الشارع ليتمكن جمهور اللاذقية من الاستماع للشعراء.. تفاعل الجمهور مع قصائد البردوني وهو ينشدها بشكل غنائي جميل وبصوته البسيط العذب.. سألته في حواري معه في اليوم التالي عن سبب إنشاده لقصائده ـ وهذه ميزة تسجّل له ـ أجابني بلهجته اليمنية وبأسلوبه المرح وهو يطلق ضحكته البسيطة العفوية التي تميّز بها في حواراته ولقاءاته مع الآخرين: أُنشِدُ شعري أحياناً لثلاثة أسباب وهي: 1ـ أن الشعر الذي ألقيه قابل للإنشاد أحياناً.. 2ـ إنّ هذا الشيء أعتبره نوعاً من التنشيط في القاعة .. 3ـ الشعر له أداء خاص وخاصة على المنصة.

البردوني والأساليب الشعرية الأخرى.

 في حواري معه أيضاً سألته عن رأيه بالأساليب الشعرية الحديثة كقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر والتي لم يكتبها ولكن لم يرفضها فأجابني : أقول لك هنا، كما قال الإمام الشافعي:(الشعر حسنه حسن وقبيحه قبيح؟!..)وبرأيه الذي ذكره في أكثر من مناسبة أن قصيدة التفعيلة هي وريث شرعي للقصيدة العمودية، وسألته عن ما يسمى بقصيدة النثر أو الشعر المنثور فأجابني: إن قصيدة النثر الناجحة المتطورة متطورة من قصيدة النثر وهناك روّاد كبار فتحوا الطريق لنشر قصيدة النثر في العالم العربي.. وأتى البردوني بمثال عن ذلك(الشاعر محمد الماغوط) حتى أنه قال في الحوار معه: أعتبر الماغوط النموذج الناصع في قصيدة النثر وهو يمتلك الشاعرية ونثريتها وأضاف: لو كان الماغوط في زمن البحتري لكان أشعر منه؟!..

 قصائد جميلة أبدعها البردوني في السياسة والوطن والحب والوجدان نالت شهرة واسعة في العالم العربي ومنها قصيدته الغزلية(الحب القتيل)التي يقول فيها:

 يا حيرتي أين حبي أين ماضية       وأين أين صباه أو تصابيه

قتلت حبي ولكنّي قتلت به             قلبي ومزّقت في صدري أمانيه

وكيف أحيا بلا حبّ ولي نفس        في الصدر أنشره حيّاً وأطويه

 وفي قصيدة(حوارية الرصيف) يقول البردوني فيها:

يمضي لفيف.. ويليه لفيف      وأنت ثاوٍ ها هنا يا رصيف
تستعرض الأطوار مستنكراً    ومبدياً صبر الحياد الحصيف
تستقرىء الأقدام هل أنت من   قراءة الأوجاع مضنىً أسيف