مبارك الجابري
أن أقارب شعره فهذا شأن آلفه ويألفني، متكئا ببذخ على ترسانة من التنظير تحميني من الثمالة المبهجة، ثمالة تلك الروح التي عتقها زاهر في كل قصيدة من قصائده، بعد أن عصرها من كرمة حياته الباذخة بالحياة، ولكن أن أقاربه شاعرًا فذلك شأن آخر، شأن يخلع عني كل لامة، ويضعني وجها لوجه أمام تلك الروح التي عرفتها قراءة وتحليلا، قبل أن أعرفها إنسانًا وصديقًا.
سأطوح وأنا أكتب عنه بجدار الفصل الذي أقامته مدارس نقدية بين الشاعر وشعره؛ لأنني لا أملك وأنا في حضرة هذا الغياب إلا أن أجده في كل كلمة أعيد قراءتها من قصائده، هو الذي كان الغياب دومًا طريقه إلى الحضور، وهو الذي جعله إصراره على هذا الغياب قادرًا على الدوام على تخطي كل القيود التي يدركها الحاضر المبصر في واقع يتزين بقيوده ويفاخر بها تحت دعاوٍ مختلفة، تنسجم مع كل شيء إلا مع الحياة، فكان هذا التخطي للواقع طريقته إلى السعي الحثيث نحو الحافة، حافة الشعر والحياة:
في الطريق إلى الحافة
اكتشفت غيمة، تلك هي المظلة
أنا رجل أعمى يسير في ليل الصحراء
الندى من نبتة زهرة الصمت
ثم رذاذ خفيف في الطريق إلى الحافة
هكذا أضيف الـ هناك إلى حياتي[1]
هي الهناك سدة حياته ومنتهاها الذي لا ينتهي، مظللة بندى الشعر في هجير الصحراء وليلها، الهناك كما أرادها منطلقة عن كل شيء سوى حب الحياة والعب منها حتى سلافتها الأخيرة؛ لأنه كان يؤمن أن الأموات كلهم ماتوا وهم يهرولون إلى المقابر كما قال ذات شعر، فأراد لنفسه أن يكون الواقف الذي كبح جماح هرولته ليتأمل الأفق، كما لو كان يعيش أرجوحة الزمان، راجيًا أن يظل يحيا حتى تستيقظ البشرية في عصر آخر.[2]
كنت قبل عدة سنوات في حضرته محللا لشعره، ناقشت حينها ديوانه (حياة واحدة، سلالم كثيرة) وأنا أرى في قبعته وشاله وعينيه كل تلك السلالم التي خط بها الحياة طولا وعرضًا؛ ليقول ما أسميته في وقته جريا على نهج بيير زيما بـ(اللهجة الجماعية)، جماعة ما يعبر عنه تييري إيجلتون بـ(الأيديولوجيا الجمالية)، أو بلغة أوضح: الوعي الذي يقوله الخطاب المؤسس لقصيدة النثر، رغم تأكيدي حينها أن تفرده الشعري أبقاه دومًا بصوته الذي يقول الجماعة، جماعة ذاك الوعي، بلغته هو، وبوعيه هو، بما هو الوعي الفردي، حين يعمل بالطريقة التي نحن بصددها في هذا الخطاب، تفكيك وإعادة قراءة لما هو مجلوب من الجمعي.
بعيدًا عن هذه المرايا النظرية المقعرة؛ ظل في شعر زاهر دوما نسق ناظم واحد، يتأسس على تصنيفين مركزيين: الهجرة والإقامة، يبتكر دومًا بينهما طريقته الملفتة في سوقهما إلى تبادل المعنى. وهل يمكن قراءة شعر زاهر دون هذه المركزية للغياب في شعره، بضدها الحاضر دوما في صيغته الندية التي يختلق الخطاب ضدها الدائم في الوعي. يقول:
وعندما أنظر إلى حياتي من الأسفل
أسمع كأنها قادمة
من جوف نهر بعيد
وهي تدفع بظهري
المبلل بالعرق
والتراب إلى الأعلى.[3]
حيث الإقامة هنا رديف التعب والعرق والموت، التصاق بالتراب، وحيث الهجرة دوما حركة نحو الأعلى، أعلى الروح والحياة.
كنتُ آخذ الوديعة وأمضي. أجتاز الصحراء ليلًا
وأدخل مملكةَ النجومِ على ظهر المعصية. ورائي
عاصفةٌ مثل موكب من الحراس وخطوتي على الرملِ
كنزٌ مستعاد من الطوفان.
ورغم أنني لم أكن أصادف خيمةً ولا نبعًا في الطريق
إلا أن حياتي ما تزالُ
أمثولةً حية في وجه الريح.[4]
هنا حيث الاجتياز للصحراء يكون ليلاً، ليتكرس تيهها الأبدي بالظلام، فتنعدم الوجهة التي تحددها قيود الواقع ومنطقه المشوه، وحينئذ التحليق نحو السماء، تحليقًا لا رفيق في تيهه، ولا شيء يغري بالإقامة كنبع أو خيمة، لتبقى الحياة التي يريدها أمثولة لا تردم طللها الرياح، ولا يشفي غليلها سوى أن تكون حية، وبين الحياة وصفة أمثوليتها “حية” مسار من تناسل العلامات.
هذا الطائر الذي سيحمل ذراعي بعد قليل
كما لو كنت قديسًا يحلم بالأرض
أقول له سرا خافتا:
اذهب، اذهب إلى البعيد
إلى تلك السماوات
وترنّح قليلًا هناك،
هذه أرضي
أريد أن ألعب
وأشم الأقحوان وآكل رغيف الخبز البائت هذا
ثم أشرب النقطة الأخيرة من القنينة
الحمراء، وبصرخة تشبه القذيفة
أو رسالة مرمية في البحر، أخاطب الكلمة.[5]
أليس هو زاهر هنا؟ كيف لأي كان عرف زاهر ألا يجده في كل حرف من هذا النص، وهو الذي ظل يحلق مع طائره بعيدًا بعيدًا مأخوذا بالحياة، في سماواتها التي لا يحدها شيء أكثر من امتداد النفس بهائها الأخيرة، مستغرقًا في كل لحظاتها العابرة، ليحيل عبورها إلى استدامة تفتح الأقحوان، أو حتى إلى لذة الخبز التي لا تفتر عند النبيذ رغم بياته، فتحيله قوة هادرة بها، أي بالحياة، ينفخ في شعره روحه الحرة التي جعلته شعرا عالميا بلغة عربية، تلك اللغة التي نقطت أحرفها الأولى بين أقحوان وادي سرور وروغه.
إذن، لا يكاد يمكن قراءة شعر زاهر إلا من هذا المدخل الواسع باتساع أسفاره وامتداد مسافاته، وقد كسا ذلك شعره بانفتاح كبير على الثقافات والأمم، حتى لا تكاد تتبين عمانيته، أو حتى خليجيته، إلا من الإهداءات التي يصدر بها بعض نصوصه، خاصًا بها بعض مقربيه، بل إن الطابع العام لنصوصه في سياق الخطاب المؤسس لقصيدة النثر في عمان – رغم ارتباطه بتقنيتها المشرعة لتناول التاريخ، بوصفه إثباتا لانتمائها إلى السلالة الشعرية العربية – ظل عند زاهر مغتربًا كما روحه وحياته، حيث بقيت مقاربة التاريخ في شعره مقاربة لا تحل غالبا في الشعر إلا وفق مسارين أساسين:
- التاريخ العالمي
- حضور الشخصيات دون سرديتها
حيث اتخذ من العالم موطنًا يتجاوز ضيق أرض معينة، ومن التاريخ تاريخا يتجاوز تاريخ أمة بعينها، بوصف نماذج التاريخ التي يجتلبها لشعره نماذج للإنسان، إنسانه الذي أراده حرا عالميا لا تحده قيود تعرف باسم الوطن أو الجنسية. يقول مثلًا:
البرق والليل خلف النافذة وفوق المائدة
نبيذٌ وخبز المعمودية، وعلى الممشى ينامُ
غصن يابس.
ثم فجأة
سمعت الصهيل يصعد من بئر الذاكرة.
لقد جاء إذن!
جاء حصان هانز آربي وهو يشق مسرى
الليل تحت الرذاذ الأسود.[6]
يمكن لحظ التداخل المطوح بالحدود منذ المشهد الأول النقيض تماما لقيض الصحراء وهجيرها، إلا أن ما يهمني هنا هو الإشارة إلى طريقته التي تكاد تكون قارة في جلب التاريخ، حيث الشخصية المؤسسة في الدادائية، الرسام هانز آربي، تقتحم النص بسرديتها المستبطنة، دون أن يقولها النص ليبقي ذاته حرة بلا تقيد بسردية مجلوبة من التاريخ، مطوعا التاريخ باختلاق سردية له في النص، تضيف إلى انفتاحه على العالم انفتاحا آخر على المعنى يكرس ما يريده من تطويح بالحدود، بين الرذاذ الذي يلونه بالسواد، كما تلون الدادائية أي شيء بأي شيء، فتقول الروح التي يريدها ممسك الفرشاة، أو ممسك القلم والنبيذ في حالة زاهر هنا.
في نص فارق يقول:
لم تصل بعد تلك الإشارة النابحة مثل كلب غارق في الظلام
آه أيتها الحياة، سعيد أنا في ضيافتك
معا، دوما معا نحمل الرفش
وننظر إلى الوجوه الحزينة
أطلقي سراحي الآن لأذهب إلى اللامكان،
ناسيًا هذه الخرقة،
نغمة المأساة هذه وهي تتمايل في الريح.[7]
لقد مشيت أنت والحياة جنبا إلى جنب ومعا يا زاهر، كما أردت وكما أرادت لك الحياة، فهل وصلتك الإشارة النابحة أخيرًا لتطلق سراحك إلى اللامكان كما طلبت، كل شيء كان كما أردت وكما اشتهيت وأحببت، لأنك باختصار كنت تسير ناسيا، لا متناسيا فحسب، كل ما حولك من إكراهات حسنت مساوئها بألفاظ عدة: قوانين للنظام، وقواعد للغة، ونصائح للطب، لتتجاوز كل هذه الوجوه الحزينة إلى الأبدية
[1] . نص الحافة، في كل أرض بئر تحلم بالحديقة، زاهر الغافري، كتاب نزوى، العدد40، ص41
[2] . ينظر في نصه، أمل، نفسه، ص. 40
[3] . زاهر الغافري، حياة واحدة، سلالم كثيرة، كندا، دار مسعى، 2017، ص40
[4] . زاهر الغافري، أزهار في بئر، بيروت، كولونيا، منشورات الجمل، 2000، ص. 61
[5] . زاهر الغافري، في كل أرض بئر تحلم بالحديقة، ص. 56
[6] . أزهار في بئر، ص. 37
[7] . في كل أرض بئر تحلم بالحديقة، ص. 62