hacklink al hack forum organik hit kayseri escort Z-LibraryZ-Libraryhttps://tr-vivicasino.com/IQOS HEETSmarsbahisvozoliqosiqoscasibom güncelbahis sitelerijojobetbeylikdüzü escortgrandpashabetjustin tvselçuksportsbetpark girişcasibom girişSakarya escortSakarya escortcasinolevantcasinolevant girişkolaybet girişcratos royal bettiktok downloaderhttps://sportsbetiogiris2.com/türbanlı pornoramadabetbetsinw88grandpashabetdeneme bonusu veren sitelerindian hot sex movie desionwinSlot Oyunlarıdevlet ödemeleri토토사이트dizipalDeneme bonusuu31vozol바카라사이트토토사이트먹튀검증 사이트ankara evden eve nakliyatsahabetmarsbahis girişmatbetsekabetpadişahbetdeneme bonusu veren sitelerStake Türkiyecasibomkuşadası escortpadişahbetcasibombets10casibom girişbets10jojobetcasibom 897.comsahabetsahabetmarsbahisnakitbahisizmir temizlik şirketleriEsenyurt Escortgaziantep escort bayankuşadası escortdeneme bonusu veren sitelerMegabahiscasibomcasibomjojobetkayapalazzobetonwin girişdeneme bonusu veren siteler 1xbet giriş1xbetdeneme bonusu veren sitelerartemisbetkulisbetsüratbetsüratbetsüratbetsüratbetsüratbetsüratbetGanobet Giriştravesti escortbets10holiganbetcasibom girişcasibompusulabetpusulabet girişfixbetcasinolevantdeneme bonusu veren sitelersekabetsekabetataşehir escortdeneme bonusu veren sitelerdeneme bonusudeneme bonusuMarsbahis 463Jojobetngsbahisjojobetsekabet girişbets10 sorunsuz girişcasibomcasibom girişyatırımsız deneme bonusu veren bahis siteleri güvenilir bahis siteleri bonus veren siteler hoşgeldin bonus favoribahisMaxwin giriş dedebet giriş Betsin giriş Radissonbet giris kulisbetbetvolebetticketturk ifaa , ifşa, türk sex, ifsa, telegram, türk telegram ifsa, turk ifea, turk ifsq, turk igsa, hd türk ifşa, turk ifsa, türk ifşa telegram kanalları, ifşa link, güncel ifşa, türk ifşa izle, türk porno, porn izle, turk porn, türkçe porno izle,url kısaltmaİstanbul EscortOnwinmarsbahis giriş marsbahis bonus marsbahis yeni sitecasibombankobetbahsegirqueenbet twitterbetparkbahsegelitopyabetbahisbetabetorderdumanbetpasgoltolbetsahabetsahabet girişjojobetJojobetonwinsahabetcasibom twitterzbahisJojobet Girişholiganbetcasibom. Alobet, Alobet Giriş, Alobet Güncel Giriş. damabetparobetbetmarlobizbetbelugabahispadişahbet günceltempobethacklinkextrabetBetgarantiBetparkUltrabetstarzbetstarzbetstarzbet twittersuperbetnsupertotobetpusulabetpusulabetnakitbahisdumanbetbahsegelbetebetkralbetdinamobetbetkanyonultrabettipobetkulisbetfixbetmatbetzbahisonwinbets10sahabetmadridbetmarsbahismeritbetholiganbetbetturkeymeritkingmavibetotobetgrandpashabetmatbetsahabetonwinmarsbahisholiganbetgrandpashabetmadridbetextrabetzbahisbets10meritbetmobilbahismavibetjojobetlunabetmavibetbetturkeyotobetmeritkingmatbetsahabetonwinjojobet girişholiganbet girişgrandpashabetmadridbetzbahisbets10meritbetmobilbahisjojobetbetturkeytimebet canlı maç izletempobetGaziantep escorttarafbetpusulabetmariobetbets10mobilbahissilivri escortmavibetcasibomFisch Script Robloxbetebetbetciosonbahis

خطر العلمية الشعبوية التي يقدمها يوفال نوح هراري

ترجمة/ مزنة الرحبي

المؤلف الأكثر مبيعاً حكاءٌ موهوب، ومتحدثٌ بارع لا يتوانى عن التضحية بالعلم في سبيل إثارة الانتباه، كما أن أعماله تغصُّ بالأخطاء.

دارشانا نارايانان

شاهد مقاطع فيديو ليوفال نوح هراري، صاحب الكتاب الأكثر نجاحاً “العاقل: تاريخ مختصر للنوع البشري”، وستَعجب من الأسئلة الموجهة إليه:

  • “بعد مائة عام من الآن؟ هل تعتقد بأننا سنظل معنيين بالبحث عن السعادة؟” سؤال يطرحه الصحفي الكندي على هراري، ضيفه في برنامج “الأجندة مع ستيف بايكين”
  • “هل ما أدرسه لا يزال مجدياً، وكيف أعد لمستقبلي؟” تسأل طالبة تدرس اللغات في جامعة أنتويرب.
  • “تخبرنا في نهاية كتاب العاقل، بأن علينا أن نعرف (ماذا نريد أن نريد؟) وإذاً، باعتقادك ما الذي ينبغي علينا أن نريد؟”- يقول أحد الحضور في حوارات تيد والتي كانت بعنوان ” القومية ضد العولمة: الانقسام السياسي الجديد”.
  • “لكونك أحد ممارسي الفيباسانا- وهي إحدى التقاليد البوذية الأصل للتأمل في الأشياء والنظر إلى حقيقتها- هل ساعدك ذلك في الاقتراب من مصدر القوة؟” تطرح المحاورة سؤالها هذا على هراري في مؤتمر الهند اليوم المنعقد عام 2018.

وفي مواجهة هذه الأسئلة يلجأ هراري إلى استعمال نبرة خفيضة، بل وخجولة. فأحياناً، يرد بكل دماثة وتواضع بأنه ليس عرافاً كي يحسم المسألة، لكنه سرعان ما ينتقل بعدها للإجابة على السؤال، وبكل ثقة، تجعلك تتساءل ما إذا كان حقاً مؤهلاً لذلك. يجيب هراري على سؤال الصحفي بيكين بأنه بعد مئة عام من الآن فمن المحتمل جداً أن البشر سيختفون، وستسكن الأرض كائنات أخرى مختلفة تماماً مثل السايبورغ، وأجهزة الذكاء الاصطناعي، مؤكداً صعوبة التنبؤ “بطبيعة الحياة العاطفية أو الذهنية لتلك الكيانات”. ويسدي هراري نصيحته للطالبة الجامعية ليحثها على التنوع والاختلاف، لأن سوق الوظائف لعام 2040 سيكون متقلباً جداً. ما علينا أن “نريده هو أن نريد معرفة الحقيقة” يعلن هراري في مؤتمر تيد. أما في مؤتمر الهند اليوم يقول هراري: “أمارس رياضة الفيباسانا التأملية كي أرى الواقع بوضوح” ورغم عبثية السؤال فإن هراري لا يعتذر عن الإجابة مكتفياً برسم ابتسامة خفيفة على وجهه، بل يتابع قائلاً: “تعلمني الفيباسانا مراقبة أنفاسي، فإن لم أكن قادراً على ذلك لما يزيد عن عشر ثوانٍ، فكيف أطمح إذاً إلى مراقبة الوضع الراهن للنظام الجيوسياسي؟”

إن لم يفلح كل ما سبق في إثارة قلقك، دعني أخبرك إذاً أن من بين أتباع هراري شخصيات واسعة النفوذ في العالم، تقصده مثلما يقصد الملوك القدامى العرّافات. فمارك زوكربيرغ يسأل هراري إن كانت البشرية قد اتحدت أكثر أم تشظت بفعل التكنولوجيا. والمديرة الإدارية لصندوق النقد الدولي تسأله فيما إذا كان الأطباء سيعيشون مستقبلاً على إعانة الدخل الأساسي للمواطن. بينما يوجه المدير التنفيذي لأكسل شبرينقر، إحدى كبريات دور النشر في أوروبا، سؤاله إلى هراري حول السبل التي يجب أن يتّبعها الناشرون للنجاح في هذا العالم الرقمي. وعن تأثير جائحة كوفيد على مستقبل التعاون العلمي بين دول العالم يسأل صحفي لدى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة. ويضع هؤلاء كل صلاحياتهم تحت إمرة الأحكام والمراسيم القاصرة التي يصدرها هراري، لا بين يدي خبير في إحدى تلك المجالات، بل أمام مؤرخٍ لا يزيد عن كونه مدعٍ فيما يخص العلم.

ولأننا نحيا في زمن صعب، فنحن جميعاً نبحث عن إجابات للأسئلة الأولية حول الحياة والموت. هل سيتجاوز البشر الموجات القادمة من الأوبئة، والتغيرات المناخية؟ هل تحمل جيناتنا المفاتيح اللازمة لفهم كل ما يتعلق بنا؟ هل ستنقذنا التكنولوجيا أم ستدمرنا؟ إن تعطشنا إلى قائد حكيم، هو بمثابة النبي الذي يقتحم متجاوزاً بشجاعة ضوابط؛ عدة ليقدم لنا إجابات بسيطة وواضحة ويقينية، يرويها بأسلوب قصصي أخاذ، هي رغبة يمكن فهمها، لكن هل هي واقعية؟

من المخيف أن سؤالاً كهذا لا يعد مهماً بالنسبة لكثيرين. إذ يشكل “العاقل” الكتاب المنقطع النظير لهراري، ملحمة شاملة للنوع البشري، منذ بداياتنا المتواضعة كقردة وحتى مستقبلنا الذي سنطور فيه خوارزميات ستخلعنا لاحقاً وتهيمن علينا. وقد نُشر كتاب “العاقل” لأول مرة باللغة الإنجليزية عام 2014، ثم تُرجم إلى أكثر من خمسين لغة في 2019، بيعت منها أكثر من 13 مليون نسخة. كما أوصى باراك أوباما مشاهدي سي إن إن في 2016 بقراءة الكتاب الذي شبهه بأهرامات الجيزة لما يمنحه من “بعد رؤيوي” لاستشراف حضارتنا الاستثنائية. بعد ذلك أصدر هراري كتابين هما أيضاً ضمن قائمة الكتب الأكثر مبيعاً، الأول كتاب “الإنسان الإله: تاريخ وجيز للمستقبل” (2017)، أما الثاني فقد جاء بعنوان “واحدٌ وعشرون درساً للقرن الواحد والعشرين” (2018). وعلى العموم، فقد حققت كتب هراري مبيعات تجاوزت 23 مليون نسخة حول العالم. وقد يزعم هو أيضاً بأنه المثقف الأوسع شعبية، والذي تفضل فصعد المنصات في شتى أصقاع الأرض، ليجني مئات الآلاف من الدولارات في كل ظهور له.

لقد تمكن هراري من خداعنا جميعاً، لا بما يملكه من حقائق، أو تفوق علمي، بل ببراعته في السرد. وكأحد الباحثين العلميين، فأنا أعرف مدى صعوبة طرح المسائل الشائكة بأسلوب سردي مثير ودقيق في الوقت نفسه. كما أعرف أيضاً متى تقع التضحية بالعلم في سبيل إضفاء حس الإثارة.  ويوفال هراري هو أحد من أسميّهم بـ “الشعبويين العلميّين” (ومثله أيضاً أخصائي الطب النفسي الكندي والزعيم الروحي على يوتيوب: جوردان بيترسون). والشعبويون العلميون رواة بارعون ينسجون الحكايات الشائقة حول “الحقائق العلمية” في لغة بسيطة ومقنعة عاطفياً. بينما تأتي روايتهم السردية جازمة وقطعية تنفي الاحتمال ولا تقبل الشك، وهو ما يمنحهم جواً زائفاً من الموثوقية، تّدعم رسالتهم لتكون أكثر إقناعاً. وكنظرائهم السياسيين، فإن الشعبويين العلميين مصادر للمعلومات المضللة. فهم يعملون على الترويج لأزمات زائفة، ليقدموا أنفسهم كمن يملك مفاتيح الحل لكل تلك الأزمات. ويدرك هؤلاء التأثير المضلل لأساليب السرد الجيد، ويسعون حثيثاً لحشد الجماهير من حولهم، دون الاكتراث إلى ما يجري من تحريف للمبادئ العلمية في خضم اللهاث السائر خلف الشهرة والتأثير.

واليوم، وفي عصرنا هذا، تُعد مهارة السرد الجيد أكثر ضرورة، لكن أخطر من ذي قبل، خاصة حين يتعلق الأمر بالعلوم التجريبية التي تمثل أساساً لبناء القرارات الصحية، والبيئية، والقانونية، وغيرها من الشؤون العامة، إلى جانب دورها في تشكيل آرائنا الشخصية وتوجيه اهتماماتنا وتدبير حيواتنا. كما تعتمد المبادرات المجتمعية والفردية المهمة، هي الأخرى، على فهمنا الجيد لمشكلات العالم من حولنا، وذلك أكثر من أي وقت مضى، لا سيما والوباء يغزو منازلنا، والتغيرات المناخية تنبئ بقادم أسوأ.

ولذا فقد حان الوقت لإخضاع نبينا الشعبوي، ومن هم على شاكلته، للمساءلة الجادة.

قد يكون من المدهش والحقيقي في آن معاً معرفة أن المعيار الفعلي للمصداقية في أعمال يوفال هراري قد حصد تقييماً ضعيفاً سواءً لدى الباحثين أو المنشورات البحثية الكبرى. فقد صرح المستشار الأكاديمي لهراري، البروفيسور ستيفن جان من جامعة أوكسفورد، والذي أشرف على رسالته “مذكرات عصر النهضة العسكرية: الحرب والتاريخ والهوية (1450-1600)” في إفادة صادمة بأن تلميذه السابق قد تملص أساساً من الإجراءات المتبعة للتحقق من صحة المعلومات ودقتها. وفي الملف الخاص بهراري على صحيفة ذي نيويوركر، يقول البروفيسور جان بأن هراري، في كتابه العاقل، وعلى نحو خاص قد “تحايل على” نقد الخبراء ويفترضه قائلاً “دعونا نطرح أسئلة واسعة جداً بحيث لا يمكن لأحد أن يجادل بأن هذه الجزئية أو تلك خاطئة؛ إذ ليس هناك من هو خبير على كافة الأصعدة، أو ضليع بتاريخ جميع المخلوقات، أو بفترات طويلة منه”.

ومع ذلك، فقد حاولت جهدي أن أتأكد من صحة المعلومات التي يوردها كتاب العاقل، الكتاب الذي شكل انطلاقة هراري، مستعينة في ذلك بزملائي في مجتمع علم الأعصاب والأحياء التطوري لنتوصل إلى أن أخطاء هراري كثيرة وجوهرية، بحيث لا يمكن إغفالها بحجة أنها صيد في الماء العكر. فعلى الرغم من أن أعمال هراري قد صنفت كأعمال واقعية، لا تخييلية أو قصصية، إلا أن بعضاً من سردياته تصطبغ بمسحة من خيال أكثر من كونها حقيقة، وهي إحدى السمات الدالة على العلمية الشعبوية.  

لنلقِ نظرة على “الجزء الأول: الثورة الذهنية”، وفيه يكتب هراري عن القفزة التي حققها العاقل إلى قمة السلاسل الغذائية، صاعداً بذلك على الأسود مثلاً.

إن معظم الحيوانات المفترسة في قمة الهرم الغذائي لكوكبنا مخلوقات مهيبة، ملأتها سطوتها لملايين السنين بالثقة بالنفس. بينما كان العاقل أشبه بطاغية في جمهورية الموز. ولكوننا وحتى وقت قريب من المستضعفين في غابات السافانا، فنحن نمتلئ خوفاً وقلقاً على منزلتنا، وهو ما يضاعف من طبائعنا القاسية والخطرة“.

ويستخلص هراري من ذاك بأن، “الكثير من النكبات التاريخية، بدءاً من الحروب الدامية وحتى الكوارث البيئية، نتجت عن تلك القفزة الهائلة”

وكأحد المتخصصين في علم الأحياء التطوري، لا بد أن أقول بأن هذا المقطع بالتحديد قد أثار غضبي. فما هو بالضبط ذاك الذي يجعل من أسد واثقاً بنفسه؟ أزئيره العالي؟ أم سرب اللبؤات من حوله؟ أم قبضة مخالبه الواثقة عند المصافحة؟ هل أعطى هراري تلك الخلاصة بناء على ملاحظاتٍ ميدانية أو تجارب مخبرية؟ (لا إشارة في النص إلى المصادر التي استقى منها الكاتب تلك المعلومة). وهل القلق حقاً هو المسؤول عن طبائع القسوة لدى البشر؟ هل يُقر الكاتب ضمنياً بأنه لو كان صعودنا تدريجياً إلى قمة الهرم الغذائي، لما قامت حرب على الأرض أو حدثت تغيرات مناخية بفعل الإنسان؟ 

يستدعي المقطع السابق مشهداً من فيلم “الأسد الملك” وذلك حين نظر المبجل “موفاسا” إلى الأفق قائلاً لسيمبا بأن حدود مملكته هي حتى كل ما طلعت عليه الشمس. إذ يبدو سرد هراري لتلك الحكاية واضحاً وساحراً، لكنه خالٍ تماماً من الحقيقة العلمية. 

والآن لننتقل إلى قضية أخرى وهي اللغة، حيث يزعم هراري بأن “العديد من الحيوانات، بما فيها كل أنواع القردة وحيوانات النسناس، تمتلك لغة صوتية”.

لقد قضيت عقداً في دراسة التواصل الصوتي للقردة الأمريكية الصغار، أو ما يدعى بقردة العالم الجديد (إلى درجة أنها كانت أحياناً تتبول باتجاهي كإحدى أساليبها في التواصل) وفي معهد برينستون لعلوم الأعصاب، حيث حصلت على شهادتي في الدكتوراة، بحثنا كيف ينشأ السلوك الصوتي عبر مجموعة متداخلة من الظواهر النمائية والتطورية، والعصبية، والميكانيكا حيوية. وقد نجح بحثنا في دحض الاعتقاد السائد بأن النظام التواصلي لدى القردة، على خلاف النظام البشري، مبرمج مسبقاً في شفرات عصبية أو جينية، لنكتشف، في الحقيقة، بأن صغار القردة تتعلم “التحدث” بمساعدة الوالدين، وهو ما يعكس تشابهاً مع الطريقة التي يتعلم بها أطفال البشر.

لكن، وبصرف النظر عن كل أوجه التشابه التي بينها وبين الإنسان، فإن النظام التواصلي للقردة ليس “لغة”. حيث اللغة نسق رمزي محكم الضوابط من المفردات، والجمل، والصور المجازية، وغيره مما يشار به إلى أشخاص، وأماكن، وأحداث، وعلاقات مختلفة في العالم، كما تستدعي تلك الرموز رموزاً أخرى ضمن هذا النظام وتحيل إليها (كالمفردات التي نستخدمها لتعريف مفرداتٍ أخرى). إذا يمكن لنداءات التحذير التي تطلقها القرود، أو أغاني الطيور والحيتان، نقل معلومات معينة، لكن بالنسبة لنا نحن البشر، فإن اكتساب نظام رمزي يعني العيش في “بعد جديد من أبعاد الواقع” حسبما يرى الفيلسوف الألماني إرنست كاسيرر.

ويُجمع العلماء، على اختلاف نظرياتهم المتنافسة في تفسير نشأة اللغة، بدءاً من اللغويين أمثال نعوم تشومسكي وستيفن بينكر، وحتى خبراء نظام التواصل للرئيسيات كمايكل توماسيلو وآصف غضنفر على أنه وبالرغم من توافر رسائل الإنذار في أنظمة التواصل لدى الحيوانات، تبقى اللغة مَلَكَة يتفرد بها البشر. وهذا مبدأ يدرسه طلاب علم الأحياء في كل الجامعات حول العالم، وبوسع أي كان معرفته بمجرد بحث سريع على جوجل.

يختلف زملائي الباحثون هم أيضاً مع هراري، ومن بينهم جالمار توريسون، الباحث في علم الأحياء، والذي أشار إلى أن ما يؤكده هراري بقوله إن حيوانات الشمبانزي “تصطاد في جماعات وتقاتل جنباً إلى جنب في مواجهة حيوانات البابون، والفهود الصيادة (cheetahs)، أو حيوانات شمبانزي أخرى معادية” لا يمكن أن يكون صحيحاً؛ لأن الفهد الصياد والشمبانزي لا يعيشان في الأجزاء نفسها من أفريقيا. ويحتمل توريسون بأن “هراري قد خلط بين الفهد الصياد (cheetahs) والنمر (leopards)”

لعل معرفة الفرق بين الفهد الصياد والنمر أمر ليس بذاك الأهمية.  فهراري، في النهاية، يكتب تاريخ البشر. لكن، ومن المؤسف، أن أخطاءه تمتد لتطال نوعنا نحن أيضاً. في كتابه العاقل وفي فصل “السلام في عصرنا”، يضرب هراري مثالاً من الشعب الووراني في الإكوادور (السكان الأصليين الذين سكنوا غابات الأمازون المطيرة) ليدلل تاريخيا على أن “قيام الدولة هو العامل الأهم في انحسار أعمال العنف”. ويخبرنا بأن الوورانيين شعب عنيف لأنهم “يعيشون في قلب غابات الأمازون، بلا جيش، أو رجال شرطة، أو سجون”. صحيح أن الشعب الووراني عاش أوقاتاً ارتفعت فيها معدلات جرائم القتل إلى أعلى مستوى لها في العالم، لكنهم ومنذ مطلع سبعينيات القرن الماضي يعيشون في سلام نسبياً. ولذلك تحدثت إلى أندرس سمولكا، الخبير في علم وراثة النبات، والذي سبق أن قضى فترة من الزمن مع الوورانيين في 2015 ليخبرني أن القانون الإكوادوري لا يسري على سكان الغابات، وأنه لا شرطة ولا سجون لدى الشعب الووراني. وأضاف “لو كانت هناك حالات قتل بالرماح ما زالت تثير القلق، لكنت قد سمعت عنها بكل تأكيد، فقد كنت متطوعاً هناك من أجل مشروع سياحي بيئي، ولذا فإن أمان ضيوفنا أمر مهم جداً”. وبالتالي يمكن القول بأن هراري قد استخدم مثالاً ضعيفاً للغاية لتبرير الحاجة إلى الدولة الأمنية، المعروفة بعنصريتها واستخدامها للعنف.

قد تبدو هذه التفاصيل ليست ذا شأن، لكن كل واحد منها قادر على تقويض ما يقدمه هراري ويستعرضه كأسس غير قابلة للنقض. وإذا كانت قراءة خاطفة للكتاب قد أظهرت هذه القائمة الطويلة من الأخطاء المبدئية، فأنا أجزم بأن بحثاً دقيقاً سيقود إلى نبذ الكتاب جملة وتفصيلاً (1).

لا يقف هراري عند وصف ماضينا فقط، بل يتجاوز ذلك سابراً أغوار المستقبل البشري. وبطبيعة الحال يمكن لأي شخص أن يبني فرضياته حول مستقبلنا، لكن من الضروري في الوقت ذاته أن نتحقق من صحتها، خاصة إن كانت تصدر عن شخص له كلمة مسموعة لدى النخب من صناع القرار، كما هو الحال بالنسبة لهراري. لأن التقديرات الخاطئة، لها عواقب حقيقية. فقد تدفع والدين طموحين إلى التصديق بأن هندسة الجينات قادرة على استئصال مرض التوحد، أو تقود إلى صرف مبالغ هائلة في مشاريع عديمة الجدوى، أو تجعلنا نتخلى وعلى نحو بائس عن الاستعداد لمواجهة الأخطار التي تهددنا كالأوبئة.

والآن نسوق إليكم ما قاله هراري عن الأوبئة في عام 2017 في كتابه “الإنسان الإله: تاريخ وجيز للمستقبل”.

“إذاً وفي خضم المعاناة الدائرة في مواجهة الكوارث كالإيدز والإيبولا، فإن مؤشرات خرائط التحليل تسير لصالحنا… ولذلك فإنه من المرجح أن الأوبئة الفتاكة ستظل تهدد البشر في المستقبل في حال قاموا بتصنيعها فقط خدمةً لبعض الأيديولوجيات الوحشية. وعلى الأغلب، فقد انتهت الحقبة التي تعجز فيها البشرية عن مواجهة الأوبئة، لكن من المرجح أننا سنفتقدها”.

أتمنى أن يحين الوقت الذي سنفتقدها فيه، لكن ما حدث في الواقع، هو أن أكثر من ستة ملايين إنسان قد لقوا حتفهم بسبب كوفيد حسب الإحصائيات الرسمية، بل تشير بعض التقديرات إلى أن عدد الحقيقي للوفيات قد تجاوز 12 إلى 22 مليون وفاة. ومهما اختلفنا على الأسباب التي نحملها مسؤولية وباء فيروس كورونا “سارس كوف-2″، أكانت البرية قد نقلته إلينا، أم معهد ووهان لأبحاث الفيروسات، فنحن نتفق على أن الوباء لم يكن مصّنعاً “خدمةً لبعض الأيديولوجيات الوحشية”.

لا يمكن أن يكون هراري على خطأ أفظع من ذاك، غير أنه، وكأي خبير جيد في العلم الشعبوي، استمر في تقديم خبرته المفترضة عبر الظهور في العديد من البرامج والعروض أثناء الجائحة. فتحدث عبر الراديو الوطني العام (NPR) عن “كيفية التصدي للجائحة والأزمة الاقتصادية الناتجة عنها”. كما ذهب إلى البرنامج التلفزيوني لكريستيان آمانبور ليسلط الضوء على “أهم الأسئلة التي يطرحها تفشي فايروس كورونا”. ثم إلى نشرة الأخبار المسائية على البي بي سي (BBC)، حيث استعرض “نظرة تاريخية على جائحة فايروس كورونا” ليرفع بعدها تنظيراته تلك إلى مستوى آخر في حلقة صوتية مع سام هاريس، ليخبرنا عن “التداعيات المستقبلية” لجائحة كورونا. ويجد هراري الوقت الكافي ليظهر على قناة إيران انترناشونال مع صادق صبا، وفي مؤتمر الهند اليوم المنعقد عن بعد في سلسلة حول فايروس كورونا، وفي عدد كبير من نشرات الأخبار في مختلف القنوات التلفزيونية حول العالم.

مستغلاً الفرصة للترويج لأزمات زائفة، وهي سمة جوهرية لأصحاب العلم الشعبوي، مضى هراري يقدم تحذيراته الملحة عن “رقابة تسري تحت الجلد” (الفكرة التي تقشعر لها الأبدان)، قائلاً: “كتجربة ذهنية، لنفترض أن إحدى الحكومات أجبرت كل مواطنيها على ارتداء سوار يراقب درجة حرارة الجسم ومعدل نبضات القلب على مدى الأربع والعشرين ساعة يومياً”. إن الجانب الإيجابي في ذلك، على حد تعبير هراري، يكمن في أن تلك الحكومة قد تستطيع استخدام تلك المعلومات للحد من انتشار الوباء خلال أيام.  في حين فإن الجانب السلبي منه يكمن في امتلاك الحكومة نظاماً رقابياً متقدماً، لأنك “إن استطعت رصد ما يحدث لجسمي من تغير في درجة الحرارة، وضغط الدم، ومعدل نبض القلب، كما لو كنت تشاهد مقطع فيديو، فإنك قادر على معرفة ما الذي يضحكني، ويبكيني، وما الذي يُغضبني بشدة”.

لكن العواطف الإنسانية، وطريقة تعبيرنا عنها، ذاتية ومتباينة إلى حد كبير.  كما أن هناك اختلافات ثقافية وفردية لتأويل أحاسيسنا، ولذا لا يمكن استنتاجها من خلال المقاييس الفسيولوجية دون المعلومات السياقية (فرؤية عدو قديم، أو عاشق جديد، أو حتى الكافيين هي أسباب يمكن أن ترفع من ضربات القلب لدينا). الأمر الذي ينطبق حتى عند استخدام معايير فسيولوجية أكثر تكثيفاً كمراقبة حركات الوجه مثلاً. فالمتخصصون أمثال الطبيبة النفسية ليزا فيلدمان باريت قد وجدوا أنه وعلى عكس الاعتقاد الشائع، فحتى مشاعر الحزن والغضب ليست كونية التشابه. وتوضح فيلدمان باريت بأنه “لا توجد معانٍ عاطفية متأصلة وفطرية لحركات الوجه حتى نقرأها كما تقرأ الكلمات المكتوبة على الورق”، لذلك يتعذر حتى الآن اختراع نظام تكنولوجي قادر على استنتاج ما نشعر به في لحظة معينة (وهو السبب ذاته الذي قد يستحيل معه مستقبلاً بناء أنظمة كلية الاطلاع والمعرفة).

إذاً فمزاعم هراري غير مقبولة علمياً، لكن لا يمكن أن نتجاهلها فحسب. فكما يقول أحد الزملاء والخبير في علم الأعصاب أحمد الهادي بأننا “نعيش تحت مظلة الرقابة الرقمية”. فالشركات والحكومات تراقبنا على الدوام، وحين نسمح لأناس كهراري بإقناعنا بفكرة أن الرقابة التكنولوجية قادرة على “معرفتنا أفضل مما نعرف نحن أنفسنا”، فنحن نواجه خطر ترك عقولنا للخوارزميات كي تتلاعب بها. ولذلك عواقب حقيقية تقود لما هو أسوأ، كتقرير من هم الذين يمكن تطويعهم للاستخدام في مقابل أولئك الذين يشكلون تهديداً أمنياً وفقاً للحكمة المزعومة للخوارزميات.

دائماً ما تكون تخمينات هراري تلك مبنية على قصور في فهم العلوم الطبيعية. فتوقعاته بشأن مستقبلنا الحيوي، مثلاً، ترتكز على المنظور الجيني للتطور، وهي إحدى أساليب التفكير الشائعة مع الأسف والتي قد سيطرت على الخطاب العام بفعل شخصيات عامة من أمثال هراري. تقدم اختزالية كتلك رؤية تبسيطية للواقع، والأدهى من ذاك، أنها قد تنحرف وبصورة خطرة إلى المجالات المتعلقة بتحسين النسل.

حيث يكتب هراري في الفصل الأخير من كتاب العاقل:

“لماذا لا نعود إلى لوح الرسم الذي خطه الرب، لنصمم نسخاً أفضل من الإنسان العاقل؟ فهناك أصل جيني للقدرات، والاحتياجات والرغبات لكل منا. والخارطة الجينية (genome) للعاقل ليست أكثر تعقيداً من تلك التي للقوارض والفئران (إذ تحتوي الخارطة الجينية للفأر على ما يقرب من 2.5 مليون من القواعد النيتروجينية (nucleobases)، بينما هناك 2.9 بليون قاعدة في خارطتنا الجينية، أي أنها أكبر فقط بنسبة 14%)، وإذا كانت الهندسة الجينية قادرة على تطوير فئرانٍ بذكاء خارق، فلِمَ لا تطور بشراً عباقرة بالطريقة نفسها؟ وكما تمكن مهندسو الجينات من صنع قوارض أحادية الروابط، فهل يصعب عليهم تعديل البشر جينياً كي يظلوا مخلصين لشركائهم؟”(2)

في الواقع، تبدو تلك الفكرة ملائمة جداً لو كانت الهندسة الجينية عصاً سحرية، يمكنها بلمسة سريعة تحويل زير نساء إلى زوج مخلص، وتحويل كل شخص إلى آينشتاين، لكن من المؤسف أن هذا ليس واقع الحال. لنقل أننا نريد أن نغدو نوعاً من كائنات مسالمة. لقد وجد العلماء أن النشاط الضعيف للجين المسؤول عن “الأوكسيديز أحادي الأمين (MAO-A)” مرتبط بالسلوك العدائي وجرائم العنف، لكن في حال أردنا أن “نعود إلى لوح الرسم الذي خطه الرب، لنصمم نسخاً أفضل من الإنسان العاقل؟” (كما يقول هراري)، فلا يمكن الجزم بأن كل أولئك الذين يضعف لديهم نشاط الأوكسيديز أحادي الأمين هم أشخاص عنيفون، أو العكس صحيح. فأولئك الذين نشأوا في بيئات كانوا فيها معرضين للكثير من الإساءات، غالباً ما يصبحوا أشخاصاً عدائيين وعنيفين، بغض النظر عن جيناتهم. فقد يحميك النشاط العالي لأوكسيديز أحادي الأمين من قدر كهذا، لكنه ليس أمراً حتمياً.  وفي المقابل، فإن الأطفال الذين نشأوا في وسط ملؤه الحب والدعم، فإنهم عادة ما يكبرون أكثر إشراقاً، حتى أولئك الذين لديهم نشاط منخفض للأوكسيديز أحادي الأمين.

ليست الجينات لاعباً يحرك الدمى في مسرح العرائس، يشد الخيط المناسب، في الوقت المناسب ليتحكم بالتفاعلات التي تصنعنا. وعندما يكتب هراري عن إحداث تغيير في الوظائف الحيوية لأعضائنا، أو “إعادة هندسة” البشر ليصبحوا أوفياء أو أذكياء، فإنه يتخطى بذلك العديد من الآليات غير الوراثية التي ساهمت في تشكيلنا. فحتى الأشياء التي قد تبدو مبرمجة فطرياً كالوظائف الحيوية في أجسادنا، مثل انقسام الخلايا، وتحركها، وتحديد مصيرها، ثم انتظامها لتكوين أنسجة وأعضاء، لا تشكلها الجينات فحسب. إذ أجرى العالم ج. إل. ماركس في الثمانينات سلسلة من التجارب على ضفادع القيطم الأفريقي (ضفادع مائية موطنها الأصلي جنوب الصحراء الأفريقية الكبرى)، ليتوصل إلى أن الأنشطة الحيوية “المعتادة” (مثل التفاعلات الكيميائية، ومختلف أنواع الضغط الميكانيكي داخل الخلايا وخارجها، والجاذبية) يمكنها تفعيل دور الجينات أو تعطيله محددة بذلك مصير الخلية. واستنتج ماركس أن أجساد الحيوانات نشأت عبر ما يشبه تراقصاً تشابكياً بين الجينات، والأنشطة الفيزيائية المتغيرة والظروف البيئية المحيطة.

ولنضرب مثالاً على ذلك من خلال حاسة التذوق. فعند قراءة ما كتبه هراري، قد يذهب البعض إلى الاعتقاد بأن سلوك المواليد الجدد من البشر، على سبيل المثال، يكاد يكون محكوماً تماماً بجيناتهم، نظراً لأنهم لم يتعرضوا بعد “للتربية” التي تعينهم على التحدث. لكن البحث يشير إلى أن المواليد بعمر الستة أشهر والذين اعتادت أمهاتهم على شرب كميات كبيرة من عصير الجزر في الثلث الأخير من فترة الحمل بهم، يحبون تناول حبوب بنكهة الجزر دون غيرهم من الصغار. فهؤلاء المواليد لا يفضلون نكهة الجزر لأنهم يحملون جينات “حُب الجزر”، لكن عندما ترضع الأمهات (البيولوجيات أو الحاضنات) أطفالهن، فإن نكهة الأطعمة التي قد تناولنها تظهر في حليبهن، وبذلك يطور أطفالهن الرضع تفضيلاً لتلك الأطعمة. وهكذا “يكتسب” المواليد تفضيلات الطعام من سلوك أمهاتهم.

فلأجيال، حُثّت الأمهات الكوريات الجدد على تناول حساء أعشاب البحر، والأمهات الصينيات على أكل كوارع الخنزير المطهوة بالزنجبيل والخل، بعد الولادة مباشرة. ولذا يكتسب الأطفال الكوريون والصينيون تفضيلات أطعمة مرتبطة بثقافتهم دون الحاجة إلى أن تكون لديهم جينات “أكل الزنجبيل” أو “الرغبة في الخل”. 

وفي وقتنا الحاضر، وبغض النظر عن أماكن عيشنا، فإننا نستهلك السكر المعالج. وعلى المدى الطويل، قد يقود اتباع برنامجٍ غذائي يحتوي على كميات عالية من السكر إلى أنماط أكل غير طبيعية، وإلى الإصابة بالسمنة. وقد استخدم العلماء نماذج حيوانية ليكشفوا عن الآليات الجزيئية التي يحدث من خلالها ذلك، ليتوصلوا إلى أن تناول كميات عالية من السكر يحفّز البروتين المعقد الذي يدعى ب(PRC2.1)، والذي يقوم بعدها بتنظيم التعبير الجيني لإعادة برمجة الخلايا العصبية الخاصة بالطعم وتقليل الإحساس بالمذاق الحلو، مبقياً الحيوانات في أنماط تغذية غير قابلة للتكيف. وبذلك تغير العادات الغذائية التعبير الجيني، وهو ما يعد مثالاً على “التّخلق اللاجيني أو الفوق جيني- epigenetic reprogramming” الذي يقودنا نحو اعتماد خيارات غذائية غير صحية.

وبذلك فإن التغذية تشكل طبائعنا، كما تحدد طبائعنا نمط التغذية التي نتناولها، وهذه ليست ازدواجية بقدر ما هي أشبه بشريط موبيوس. فالحقيقة التي تشكلت بها “القدرات، والاحتياجات والرغبات لكل منا” بالغة التعقيد (ورفيعة!) إلى درجة أبعد مما يصورها هراري.

تقول عالمتا الوراثة إيفا جابلونكا وماريون ج. لامب في كتابهما “نظرية التطور بأربعة أبعاد” بأن “الفكرة القائلة بوجود جين خاص بروح المغامرة، أو أمراض القلب، أو السمنة، أو النزعة الدينية، أو المثلية الجنسية، أو الخجل، أو الغباء، أو أي جانب آخر متعلق بالعقل والجسد، هي فكرة لا محل لها في علم الوراثة. وعلى الرغم من ذلك فإن كثيراً من الأطباء النفسيين، والباحثين في مجال الكيمياء الحيوية، أو في مجالات أخرى من غير المتخصصين في علم الوراثة (ممن يقدمون أنفسهم كرواد فيما يتعلق بالمشاكل الجينية) ما زالوا يستخدمون تلك اللغة التي تشير إلى الجينات كعوامل سببية بسيطة، ليمنحوا جماهيرهم وعوداً بحلول سريعة لمختلف أنواع المشاكل، بينما هم ليسوا أكثر من أبواق دعائية يجب أن توضع معارفها ودوافعها موضع الشكك”.

تبقى دوافع هراري غامضة، إلا أن توصيفه لما يخص علم الأحياء (وتوقعاته المستقبلية) مأخوذة من الإيديولوجيا السائدة بين خبراء التقنية في السيليكون فالي من أمثال كلاري بيج، وبيل جيتس، وإيلون ماسك، وغيرهم. فقد تتابين أراء هؤلاء فيما إذا كانت الخوارزميات ستحمينا أم ستدمرنا، لكنهم جميعاً متفقون، ودون أي استثناء، على القوة الفائقة للحواسيب الرقمية. ففي مقابلة له مع مجلة النييويورك تايمز عام 2020، يقول إيلون ماسك “إننا نسير باتجاه زمن سيكون فيه الذكاء الاصطناعي متفوقاً بكثير على البشر، وأعتقد بأن ذلك سيتحقق في غضون ما يقل عن خمس سنوات من الآن”. لكن ماسك على خطأ. فالخوارزميات لن تنتزع منا وظائفنا، ولن تسيطر على العالم، كما أنها لن تضع خطاً لنهاية البشرية في أي وقت قريب (إن لم يكن ذلك على الإطلاق). وعن احتمالية امتلاك الخوارزميات للاستقلال الإدراكي، يقول الاختصاصي في مجال الذكاء الصناعي فرانسوا شوليه بأن حدوث ذلك “اليوم أو في المستقبل القريب، يعد ضرباً من الخيال العلمي”. وبترديد سردية السليكون فالي تلك، فإن هراري ذو العلم الشعبوي يروج، مرة أخرى، لأزمات زائفة. والأسوأ من ذلك، هو قيامه بصرف أنظارنا عن المخاطر الحقيقية للخوارزميات والسلطة المطلقة التي تتمتع بها الصناعة التكنولوجية.

يستعرض هراري في الفصل الأخير من كتابه الإنسان الإله نوعاً من ديانة جديدة يطلق عليها اسم “عقيدة البيانات”. وممارسو هذه العقيدة “البياناتيون أو Dataists” كما يسميهم، يرون أن الكون بأسره عبارة عن تدفقات من البيانات، وجميع الكائنات الحية مجرد معالجات لبيانات كيميائية حيوية. أما “رسالة البشر الكونية” حسب اعتقادهم تكمن في صنع معالجات بيانات كلية المعرفة ومطلقة السلطة بحيث يمكنها فهمنا أفضل مما نفهم نحن أنفسنا. وتأتي النهاية المنطقية لهذه الملحمة، حسب توقعات هراري، لصالح الخوارزميات التي ستحكم سيطرتها على جميع مظاهر حياتنا، لتقرر من سنتزوج، وما هي المسارات المهنية التي سنسلكها، وما هي آليات التحكم بنا (وكما تتوقعون، فإن السليكون فالي هو مركز العقيدة البياناتية*).

ويقول هراري على لسان معتقدي هذه الديانة بأن “الإنسان العاقل خوارزمية بائدة. ففي نهاية المطاف، ما الذي يمنح البشر قدْراً أرفع من الدجاج؟ لا شيء سوى أن معلومات البشر تتدفق في أنماط أكثر تعقيداً. كما يستوعب البشر كماً أكبر من البيانات، ويعالجونها من خلال خوارزميات أفضل. إذاً، إن كان بوسعنا صنع نظام لمعالجة البيانات يتفوق في سعته الاستيعابية على البشر، ويعالجها بكفاءة أعلى، ألن يتفوق حينها ذلك النظام على البشر بالطريقة ذاتها التي يتفوق فيها البشر على الدجاج؟”

لكن البشر ليسوا نسخاً من دجاج أرقى، كما أنهم لا يتفوقون، بالضرورة، على الدجاج من جميع النواحي. في الحقيقة، يستطيع الدجاج “استيعاب كمٍ أكبر من البيانات” مقارنة بالبشر، بل و”يعالجها على نحو أفضل” وذلك على الأقل فيما يخص المجال البصري.  ففي شبكية العين لدى الإنسان هناك خلايا مستقبلة للضوء حساسة تجاه الأطوال الموجية للضوء الأحمر، والأزرق، والأخضر. بينما تزيد شبكية عين الدجاجة على ذلك بامتلاكها لخلايا مخروطية حساسة تجاه الأطوال الموجية للضوء البنفسجي (وفوق البنفسجي)، ومستقبلات خاصة تساعدها على تتبع الحركة بشكل أفضل لأن أدمغتها معدّة لمعالجة كل هذه المعلومات الإضافية. إن عالم الدجاج سيّالٌ متعدد الألوان إلى درجة نعجز عن إدراكها. وأنا لا أرمي بذلك إلى القول بأن الدجاج أفضل من البشر، فهذا ليس موضعاً للمنافسة، بل أسعى إلى إيضاح كيف يتفرّد الدجاج بطبيعته “كدجاج” بالطريقة ذاتها التي نتفرد نحن بها بطبيعتنا “بشراً”.

فلا الدجاج، ولا البشر هم مجرد خوارزميات. إذ أن أدمغتنا هي جزء من جسد يقع بدوره ضمن بيئة ما، وبذلك تنبع سلوكياتنا من نشاطات بيئية وجسدية. ولا تكتفي الكائنات الحية بإدخال بيانات بيئتها المحيطة ومعالجة تدفقها فقط، لكنها تحدث تغييرات في بيئاتها أو بيئات الآخرين من حولها وعلى نحو مستمر، بل وتشكلها في عملية يسميها علم الأحياء التطوري بعملية “بناء الموطن الملائم- niche construction”. فعندما يبني القندس سداً لعبور التيار، فإنه يصنع بحيرة كذلك، حينها تجد باقي الكائنات الحية أن عليها العيش في عالم تتوسطه بحيرة. حيث بإمكان القنادس تشكيل مستنقعات مائية تبقى لقرون، مغيرة في الضغوط الانتخابية التي ستتعرض لها أسلافها، مما يسبب إلى حدٍ ما نقلة نوعية في عملية التطور. ويمتلك الإنسان العاقل مرونة لا مثيل لها، إذ نمتلك قدرة استثنائية على التكيف مع بيئاتنا، وعلى تحسينها أيضاً. إن نشاطاتنا المعيشية لا تميزنا عن الخوارزميات فقط، لكنها أيضاً تصعب عليها، إلى درجة شبه مستحيلة، إمكانية توقع سلوكياتنا الاجتماعية بدقة. إذ تعجز تلك الخوارزميات عن تحديد الأشخاص الذين سنقع في حبهم مثلاً، وكيف سيكون أداؤنا في وظائفنا المستقبلية، أو احتمالات ارتكابنا للجريمة(3).

لقد أتقن هراري تقديم نفسه كأحد الكتبة الموضوعيين. فهو يسعى جاهداً ليخبرنا بأنه إنما ينقل إلينا نظرة أتباع الديانة البياناتية للعالم، لا وجهة نظره الخاصة. لكنه يتحايل على ذلك قائلاً بعدها بأننا ربما نزدري تلك النظرة التي يتبناها أتباع البياناتية لكونها “تصوراً متطرفاً وغريباً، لكنه في حقيقة الأمر قد غزا فعلاً أغلب المؤسسات العلمية”. إذ تشي عبارته الأخيرة القائلة بأن تصور البياناتيين للعالم “قد غزا فعلاً أغلب المؤسسات العلمية”، بتأكيده على “موضوعية” القول بأن البشر مجرد خوارزميات، وأننا نسير إلى زوالنا بعد أن أصبحنا مُتلقين لا أكثر للقرارات التي تمليها علينا خوارزميات أذكى، وهو أمر لا مفر منه على حد قوله، لأنه مرتبط ارتباطاً تاماً بطبيعتنا الإنسانية. لكن بالعودة إلى قائمة المراجع التي يدّعم بها هراري أقواله الجزافية تلك، نجده قد استخدم أربعة كتب فقط، ثلاثة منها لمؤلفين غير متخصصين في المجالات العلمية فأحدهم مرّوج موسيقي، والثاني يعمل متنبئاً في مجال التوجهات الإعلامية، أما الثالث فهو ناشر لإحدى المجلات(4).

لا شيء حتمي فيما يتعلق بمصير البشرية. والتآكل الذي تتعرض له حريتنا في مقابل إمكانات التحكم التكنولوجي ليس قدراً كونياً، لكن أسبابه تعود إلى النموذج الاقتصادي الجديد الذي ابتكرته جوجل وكمّلته فيسبوك، وهو أحد أشكال الرأسمالية التي أوجدت طرقاً للتلاعب بنا من أجل صناعة المال.  وهذا النموذج هو ما تدعوه شوشانا زوبوف، الباحثة في علم الاجتماع، “برأسمالية المراقبة”. حيث تعمل الشركات القائمة على هذا النموذج والمالكة للمنصات الرقمية التي نعتمد عليها وبشكل متزايد في المعيشة، والعمل، والترفيه، ومنها جوجل، وفيسبوك، وأمازون، ومايكروسوفت، وغيرها، بمراقبة أدق التفاصيل المتعلقة بنشاطاتنا على الإنترنت، لتستخدم هذه المعلومات في التأثير على سلوكنا من أجل زيادة أرباحها. وكنتيجة ثانوية، فقد ساعدت هذه المنصات على إنشاء غرف الصوت الواحد والتي ساهمت في الانتشار الواسع لموجات عدة مثل إنكار التغير المناخي، والشك في العلم، والاستقطاب السياسي. وعبر الإشارة بوضوح إلى عدونا هذا، وتعريفه اختراعاً بشرياً، لا حقيقةً طبيعية أو حتمية تكنولوجية، فإن زوبوف تمنحنا طريقة للوقوف في وجه هذا العدو. وكما يمكنكم أن تتصوروا فإن زوبوف، وعلى خلاف هراري، ليست شخصاً محبوباً لدى أرباب السيلكون فالي.

في أكتوبر من عام 2021 أصدر هراري المجلد الثاني المصور من كتاب العاقل. أما التالي فهو صدور نسخة من الكتاب مخصصة للأطفال، وعرض حيٌ بعنوان “العاقل، تجربة غامرة”، وبرنامج تلفزيوني متعدد المواسم، مستوحى من كتاب العاقل. وهكذا يسعى رسولنا الشعبوي جاهداً في البحث عن أتباعٍ جدد ليصعد من خلالهم إلى درجات أعلى في سلم الشهرة والتأثير.

لقد تمكن هرار من تضليلنا عبر أسلوبه السردي، لكن نظرة فاحصة إلى كتاباته ستكشف أنه قد جازف بالعلم من أجل تحقيق الإثارة، مرتكباً وعلى نحو دائم أخطاء جسيمة تمس الحقائق العلمية. كما أنه يصور ما لا يعدو كونه ضرباً من التخمينات كأمر يقيني قاطع. إن الأسس التي يبني عليها هراري أقواله غامضة، لأنه نادراً ما يضيف حاشية أو مراجع ومصادر كافية، ومن الملاحظ أيضاً تقصيره عن الإشارة إلى مفكرين ساهموا في صياغة الأفكار التي يستعرضها كبنات أفكاره(5). وما هو أخطر من ذلك، تعزيزه لسردية رأسماليي المراقبة، ممهداً لهم سبل التلاعب بسلوكياتنا بما يتناسب ومصالحهم التجارية. ولنجنب أنفسنا شر الأزمة الحالية، والأزمات القادمة، علينا أن نرفض بشدة العلمية الشعبوية الخطرة التي يجرها إلينا يوفال نوح هراري.

__________________________________________________________

للوصول إلى المقالة الأصلية يمكنكم زيارة الصفحة التالية:

https://www.currentaffairs.org/2022/07/the-dangerous-populist-science-of-yuval-noah-harari

(1) تعكس المآخذ التي أشرت إليها حول المصداقية العلمية لأعمال هراري نقداً سابقاً قدمه المؤلف أناند جيريداراداس على كتاب آخر هو أيضاً من الكتب الأكثر مبيعاً وعنوانه “الاضطراب: كيف تتكيّف الأمم مع الأزمات والتغيرات” لجاريد دايموند. حيث يواجه جيريداراداس دايموند قائلاً: “إن لم نكن قادرين على منحك الثقة في الأمور البسيطة والمتوسطة، كيف وهناك مؤلفو كتب يزيد سمكها على الثلاثين ألف قدم، يسعون جاهدين لاكتساب تلك الثقة وهم يقدمون أطروحات أكبر وأكثر تعقيداً؟”  ويشير جيريداراداس إلى الحاجة إلى تمحيص الحقائق بطريقة احترافية في الكتب العلمية الطويلة، وقد عجبت بأن ذلك ليس المعيار المتبع.

(2) مقطع آخر مشابه من كتاب هراري (2017) الإنسان الإله: تاريخ وجيز للمستقبل: “وعندما نصبح قادرين على تعديل الجينات القاتلة، فلماذا نتكبد مشقة إقحام أحماض نووية دخيلة، في حين لا نحتاج سوى إعادة كتابة الشفرة الوراثية لتتحول الطفرات الجينية الخطرة إلى نسخة حميدة؟ ولاحقاً قد نبدأ في استخدام الآليات نفسها لا لتعديل الجينات ذات الطفرات القاتلة فحسب، بل وحتى الجينات المسؤولة عن الأمراض الأقل خطورة، كالتوحد، والغباء، والسمنة”.

(3) لا توجد مصادر محكّمة تثبت أن الخوارزميات قادرة على توقع الأداء الوظيفي، بغض النظر عن ملايين الأشخاص الذين يجري فرزهم عبر الخوارزميات للعمل في شركات مثل ماكدونالدرز، وكرافت هاينز، ومجموعة بوسطن الاستشارية، وسواروفسكي. أما الشركات التي تعرض خدمات الفرز الوظيفي عن طريق الخوارزميات، وعلى رأسها شركتي هاير فيو (HireVue) وبيميتريكس (Pymetrics ) فقد أطلق عليها علناً عالم الكمبيوتر آرفيند نارايانان من جامعة برينستون بأنها “تبيع السراب”.

(4) الكتب التي اعتمدها هراري كمراجع:

 Kevin Kelly, What Technology Wants (New York: Viking Press, 2010); César Hidalgo, Why Information Grows: The Evolution of Order, from Atoms to Economies (New York: Basic Books, 2015); Howard Bloom, Global Brain: The Evolution of Mass Mind from the Big Bang to the 21st Century (Hoboken: Wiley, 2001); Shawn DuBravac, Digital Destiny (Washington: Regnery Publishing, 2015).

(5) قد يظن القارئ العادي الذي يقتني أعمال هراري بأن ما يعرضه نابع من وحي أفكاره، لكن غالباً ما تكون أطر تفكيره مستوحاة من أفكار لآخرين سبقوه. على سبيل المثال: فإن المقارنة التي يعقدها هراري بين الديانات والأيدولوجيات العلمانية بالنسبة إلى لعبة البوكيمون تشبه وإلى حد كبير المقارنة التي قام بها الفيلسوف سلافوي جيجيك، في عام 2017 في كتابه “شهوانية الباطل: عُقَدُ الفلسفة الاقتصادية” والتي ناقشها من قبل في محاضرات مختلفة. وفي كتابه الإنسان الإله (2017)، يخصص هراري فصلاً كاملاً “للبياناتية” أو “Dataism”، لكنه لا يشير إلى الصحفي ديفيد بروكس (الذي نحت هذا المصطلح)، أو ستيف لوهر (الذي نشر كتاباً سابقاً لكتاب هراري بعامين وعنوانه “البياناتية”).

*ترجمة المصطلح مأخوذة من النسخة العربية لكتاب “العاقل: تاريخ مختصر للنوع البشري” بترجمة صالح بن علي الفلاحي وحسين العبري. (المترجمة)

العدد الأخير العدد الرابع والعشرين بعد المائة ترجمات ثقافة وفكر

عن الكاتب

دارشانا نارايانان