مقاربة تاريخية
الوصية السلطانية الأولى:
لم تذكر كتب الأخبار عن سلاطين دولة ألبوسعيد قيام أحد منهم بكتابة وصية مختومة تفتح بعد وفاته لمن يتولى الحكم من بعده؛ فقد كان العهد القابوسي عهدا مختلفا ومتفردا بكل ما فيه.
وقد كنا نعلم غياب تفصيل دقيق لتسمية ولي العهد في عهد السلطان العظيم قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- ولكننا كنا كذلك مطمئنين أن حكمته سترعانا في غيابه كما رعتنا في حياته. رحل السلطان وحان لنا موعد لم نتمنَ لقاءه مع المادة ٦ من النظام الأساسي للدولة ١٠١/٩٦. كانت المادة ٦ تقول:
“يقوم مجلس العائلة الحاكمة، خلال ثلاثة أيام من شغور منصب السلطان، بتحديد من تنتقل إليه ولاية الحكم.
فإذا لم يتفق مجلس العائلة الحاكمة على اختيار سلطان للبلاد قام مجلس الدفاع بتثبيت من أشار به السلطان في رسالته إلى مجلس العائلة”.
كنا أمام احتمالين هما:
- تحديد مجلس العائلة للسلطان الجديد خلال مدة أقصاها ٣ أيام.
- اجتماع مجلس الدفاع، وفتح وصية السلطان، وتثبيت من أشار به ليتولى قيادة البلاد من بعده.
لم يكن أفراد مجلس العائلة أقل يقينا بحكمة السلطان ولا أقل إجلالا له من الشعب؛ فقرروا فتح وصية السلطان الراحل مباشرة، والقبول بمن اختاره سلطانا للبلاد. لم يستخدموا حقهم الأول للتشاور والذي قدمه السلطان الراحل على وصيته في النظام الأساسي.
ولا ننسى الكلام الذي قاله صاحب السمو السيد فهد بن محمود نائب رئيس الوزراء قبل أن يفتح مجلس الدفاع وصية السلطان الراحل:
“بسم الله الرحمن الرحيم، لاشك أن هذا المصاب جلل على فقدان هذا الرجل العظيم الذي أسس هذه الدولة وبناها على مدى نصف قرن من الزمان. نحييه ونتمنى إن شاء الله أن يرزقه ربنا بجناته، وأن يوفق هذا البلد والشعب العماني لما فيه الخير والسؤدد. للعلم مجلس العائلة قد اجتمع في وقت سابق وافق على تثبيت المذكور في الوصية التي تفضل بها جلالته؛ إكراما لهذا الرجل وتقديراً له وتعزيزاً لمكانته وسمعة عمان أمام الغير. فنحن كلنا هنا أمام مسؤوليات جسام، وعلينا أن نبذل كل جهد في سبيل هذا البلد وتقدمه وحفاظاً على أمنه وسلامته”
رحل السلطان قابوس – طيب الله ذكره وثراه- وبايعنا السلطان الجديد في ذات اليوم. لم نترقب بخوف ولم يشغلنا القلق، وسرت المراسم بسرعة وسلاسة لا مثيل لها، لم تبهر العمانيين فحسب بل وأبهرت العالم أجمع.
نص وصية السلطان قابوس:
( ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير)
الحمدلله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أصحاب السمو أعضاء مجلس العائلة الحاكمة الكرام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد؛
فقد حمّلكم النظام الأساسي للدولة أمانة عظيمة، وكلفكم مهمة جسيمة، بإسناده إلى مجلسكم الموقر مسؤولية تحديد من تنتقل إليه ولاية الحكم، وذلك خلال ثلاثة أيام من شغور منصب السلطان.
وحيث إن مجلسكم الموقر لم يتفق على اختيار سلطان البلاد في المدة التي حددها النظام الأساسي للدولة؛ فإننا بعد التوكل على الله، ورغبة منا في ضمان استقرار البلاد، نشير بأن يتولى الحكم السيد هيثم بن طارق، وذلك لما توسمنا فيه من صفات وقدرات تؤهله لحمل هذه الأمانة.
وإننا إن نضرع إلى الله العلي القدير أن يكون عند حسن الظن الذي دعانا إلى اختياره، والثقة التي دفعتنا إلى تقديمه؛ فإننا ندعوكم جميعا إلى مبايعته على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وأن تكونوا له السند المتين، والناصح الأمين، معتصمين دائما تحت قيادته بوحدة الصف والكلمة، والهدف والمصير، متجنبين أسباب الشقاق والفرقة، والتنابذ والتناحر، عاملين بقوله تعالى:
“ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم” صدق الله العظيم
وفقكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وصية السلطان قابوس لم تكن وصية لتسمية من يخلف في حكم عمان فقط؛ بل هي درس أخير منه لنا، ذكرّنا كيف نهضت عمان وكيف بقيت وكيف شقيت فيما مضى. أعطانا جملته مقتبساً إياها من كتاب المولى -عز وجل- الذي قال:
“ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم” صدق الله العظيم.
عودة للتاريخ: وصية سليمان بن عبد الملك إلى عمر بن عبدالعزيز
عن طريق الصدفة قرأت في كتاب تاريخ الطبري الكيفية التي تم بها تولية عمر بن عبدالعزيز من قبل الخليفة سليمان بن عبد الملك بن مروان. وقد أذهلتني التفاصيل التي تشبه حد التطابق لما حدده السلطان قابوس –رحمه الله– للكيفية التي سينتقل بها الحكم من بعده.
وصية سليمان بن عبد الملك:
حين مرض سليمان بن عبد الملك واستشعر دنو المنية منه، بعث في طلب وزير أمين لبني أمية يدعى رجاء بن حيوة، واستشاره أن يولي بعده ابنا صغيرا له لم يبلغ الحلم بعد؛ فأشار إليه رجاء بن حيوة أن يولي على المسلمين الرجل الصالح. ثم شاوره سليمان في أن يولي ابنه داود؛ فقال له رجاء: إنه غائب عنك بالقسطنطينية، ولا يدري أحد إن كان حياً أم ميتاً؛ فقال سليمان بن عبد الملك لرجاء: من ترى؟ فقال رجاء: رأيك يا أمير المؤمنين. ثم سأله: كيف ترى في عمر بن عبد العزيز؛ فقال رجاء: أعلمه خيّراً فاضلاً مسلماً يحب الخير وأهله؛ ولكن أتخوف عليه من إخوتك أن لا يرضوا بذلك؛ فقال سليمان بن عبد الملك: هو والله على ذلك، ثم كتب وصيته.
نص الوصية:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من عبد الله سليمان بن عبد الملك لعمر بن عبد العزيز: إني قد وليته الخلافة من بعدي ومن بعده يزيد بن عبد الملك؛ فاسمعوا له وأطيعوا، واتقوا الله ولا تختلفوا؛ فيطمع عدوكم فيكم.
وجه الشبه في آلية إيصال الوصية إلى مجلس العائلة:
وصية السلطان قابوس: أوكل السلطان قابوس –رحمه الله– لمجلس الدفاع أمر إيصال الوصية وقراءتها أمام العائلة الحاكمة. وهنا نجد أن قادة الأجهزة الأمنية تحملوا هذه المهمة.
أما وصية سليمان بن عبد الملك؛ فنجد أنه أوكل هذا الأمر إلى صاحب الشرطة كعب بن حامد العبسي (وهو يقابل بصفته مجلس الدفاع لدينا)، وقال له:
“اجمع أهل بيتي؛ فمرهم فليبايعوا على ما في هذا الكتاب مختوما، فمن أبى منهم اضرب عنقه”
فاجتمعوا ودخل رجال منهم (من أفراد العائلة الحاكمة من الأمويين) فسلموا على أمير المؤمنين؛ فقال لهم: “هذا الكتاب عهدي إليكم؛ فاسمعوا له وأطيعوا وبايعوا من وليت فيه، فبايعوا لذلك رجلاً رجلاً، ثم تفرقوا (لقد بايع بني أمية الخليفة الجديد دون رؤية الكتاب المختوم الذي سيفتح ويقرأ عليهم بعد وفاة سليمان بن عبد الملك)، وقد أراد بعض بني أمية معرفة ما جاء في الوصية المختومة حين خرجوا معاهدين خليفتهم سليمان على من جاء ذكره فيها؛ فقد ذهب عمر بن عبدالعزيز إلى الوزير الأمين رجاء بن حيوة، وقال له: أنشدك الله وحُرمتي ومودتي إلا أعلمتني إن كان كتب لي ذلك حتى أستعفيه الآن قبل أن يأتي حال لا أقدر فيها ما أقدر عليه الساعة؛ فرد عليه الوزير: والله لا أخبرك حرفاً واحداً.
“وقد جاءه أيضا هشام بن عبد الملك فقال له: يا رجاء إن لي بك حرمة ومودة قديمة، وعندي شكر؛ فأعلمني هذا الأمر، فإن كان إلي علمت، وإن كان إلى غيري تكلمت؛ فليس مثلي قصر به، فأعلمني فلك الله على ألا أذكر من ذلك شيئا أبدا قال رجاء: فأبيت، وقلت: والله لا أخبرك حرفا واحدا مما أسر إلي”.
وجه الشبه بين نص وصية سليمان بن عبد الملك والسلطان الراحل قابوس – رحمهما الله –
لعل أبرز نقاط التشابه هي دعوة الناس إلى أمرين:
- السمع والطاعة:
ففي وصية السلطان قابوس ورد: “إننا ندعوكم جميعا إلى مبايعته على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره”، وفي وصية سليمان بن عبد الملك ورد: “إني قد وليته الخلافة من بعدي ومن بعده يزيد بن عبد الملك، فاسمعوا له وأطيعوا”.
- استبعاد المرشح المحتمل:
كلا الوصيتين توصيان بشخص ليس هو المرشح الأول والمحتمل وللحكم؛ فقد استبعد سليمان بن عبد الملك أبناءه وإخوته، وأشار أن يتولى الحكم عمر بن عبد العزيز؛ ولكنه عالج الأمر بإضافة تسميه ولي العهد خلفا لعمر بن عبد العزيز؛ ليعود الحكم بعده إلى أخيه يزيد بن عبد الملك”.
أما في عمان؛ فقد تداولت الألسنة من داخل عمان وخارجها الأسماء المحتملة لوراثة الحكم، ولم يكن من بينها السلطان الجديد هيثم بن طارق – حفظه الله-. وأما معالجة هذا الأمر؛ فقد جاء بجعل الوصية الخيار الثاني إذا لم تتفق العائلة الحاكمة على تسمية السلطان الجديد، وبهذا لم يتم سحب صلاحية الأسرة لتختار السلطان، وفي ذات الوقت لم يترك المجال لفترة شاغرة قد تهدد أمن البلاد وسلامته.
- تقوى الله:
إن تقوى الله تستلزم الأمانة والصدق، وتهميش المطامع الشخصية؛ فالوصيتان موجهتان لأفراد العائلة الحاكمة، وأمر التنازع وارد. وهذا ما قاله الوزير رجاء بن حيوة لسليمان بن عبد الملك حين قرر كتابة وصيته لعمر بن عبدالعزيز؛ فقد حذره من احتمالية عدم رضا إخوته بالوصية. ولهذا نجد في الوصيتين نصح أفراد العائلة الحاكمة بتقوى الله والصدق في تعاملهم مع الحاكم الجديد.
فقد نصح سليمان بن عبد الملك في وصيته أفراد بني أمية كاتباً لهم: “واتقوا الله”، وكذلك نجد نصح السلطان قابوس في وصيته بأن يكون أفراد مجلس العائلة “الناصح الأمين” للسلطان الجديد.
- التحذير من شر الشقاق:
تتشابه وصية سليمان بن عبد الملك والسلطان قابوس إلى حد التطابق في مضمونهما؛ فكلتاهما تحذران من الشقاق والتناحر. فقد وردت في وصية سليمان بن عبد الملك: “ولا تختلفوا؛ فيطمع عدوكم فيكم”. وأما وصية السلطان قابوس؛ فقد جاء فيها أكثر من دعوة لنبذ الشقاق: “ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم”، وفي موضع آخر وجه كلامه للعائلة الحاكمة بأن يكونوا “معتصمين دائما تحت قيادته بوحدة الصف والكلمة والهدف والمصير، متجنبين أسباب الشقاق والفرقة، والتنابذ والتناحر”.
خاتمة:
هناك العديد من الأحداث المعاصرة لديها جذور تاريخية، خاصة في الأمور التي تتعلق بالسلطة وتداولها. ويتضح ذلك بشكل خاص في الدول التي لديها تاريخ طويل في الحكم الوراثي. وهنا قد تكلمنا عن دولتين:
الدولة الأموية: التي استمرت ٨٩ سنة منذ (٦٦١ م – ٧٥٠ م)
دولة ألبوسعيد : التي تحكم حتى الآن ٢٧٩ سنة منذ (١٧٤٤ – حتى تاريخه)
فتاريخ دولة ألبوسعيد أطول بكثير من تاريخ الدولة الأموية التي زالت بعد ٨٩ فقط.
