سؤال النهضة لا يمكن البتة أن تجيب عنه ندوة أو ندوات، أو مقالات فكرية توجيهية، فالنهضة بتعبير مالك بن نبي تشمل ما قبل وأثناء وما بعد، إذ من غير الممكن تجاهل الماضي والحاضر لكي نرسم صورة واضحة حول المستقبل. وفي هذه المساهمة نتوقف مع صوت نسوي ومقاربته لقضية النهضة وهي الكاتبة هبة رءوف.
إن الجهد المطلوب لنهضة الأمة ضخم، تتجدد التحديات وتدور الأحداث؛ ليستمر تفكيك مساحة الوعي الإسلامي لأسباب تتراوح بين الانشغال باستهلاك الأفكار والسلع، أو هجرة الكوادر والعقول، أو تنافس الفرقاء أو تفكك النسيج الاجتماعي، ووطأة تحولات المنظومة الاقتصادية التي ربطت نفسها منذ الاستعمار بآلة الرأسمالية الدولية، ومنطقها ودوائرها.
ترى هبة رءوف في ظل ذلك، أن وضعنا أشبه بلحظة ما قبل النهضة الصناعية في أوروبا، ومن هنا فالمرحلة اليوم في ظل ما تعرفه الأحدث العربية بحاجة إلى رؤية ثاقبة، وصناعات ثقيلة للفكر، وعناية فائقة بإعادة صياغة خرائط العقل، وتحصيل لموارد القوة بأنواعها. وهنا تذكر هبة رءوف أن هناك رؤيتان لنهضة الأمم: أن تفكر بشكل واسع وضخم (Think Big) أو أن تطبق نظرية كل صغير جميل، والجمع بينهما واجب، والاختيار بينهما في المسارات المختلفة يحتاج إلى بصيرة؛ وأمتنا اليوم بحاجة إلى صياغة عقل النهضة قبل العمل على مشروع النهضة، فالعقل السياسي والاقتصادي قد يفكر في قياس العائد وحساب النتائج، وهذا حق مشروع وصواب، لكنه لا يبني صرح النهضة بل يشيده.
من أين يمكن البدء؟ تجيبنا هبة رءوف بقولها: “إجابتي عن سؤال النهضة أن الإصلاح عملية معقدة، لكن تبدأ دوما من الناس، صحيح أن “الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن” لكن يظل التغيير في يد الناس، فالركلة الأولى لكرة الإصلاح تأتي من الناس” فالتغيير حسب الكاتبة، يحدث حين يبدأ الناس بتحدي الواقع دون خطة تسمح بإجهاض مقاومتهم، ولأن الأمر غير متوقع؛ ولأنه خارج السيناريوهات التي ترسمها القوة المهيمنة، تفلح الجهود الصغيرة في فتح ثغرات في الجدار، وشق مساحة في السقف، وهدم ركن ركين في صرح ظن الناس قبلها أنه لا يهزم ولا يقهر، وهذا تهاوت بنية الجاهلية مع بعثة سدينا محمد صلى الله عليه وسلم.
من المقاومة إلى النهضة:
لقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي أعطى الأمة دروسا في التمدن، ووضع قواعد للأخلاق حتى في زمن الحرب والقتال. وللإشارة ترى الكاتبة، أن الأمم لا تحصل على تقدمها ولا تبني حضارتها بفعل المقاومة وحده؛ إذ ينبغي أن تكون المقاومة خطوة تكتيكية في سياق نهضة كاملة؛ لأن هذا الإطار الأوسع هو الذي يحدد لنا متى نهجم ومتى يحق لنا أن نعتصم بالصبر وطول النفس، ومتى نوظف أدوات القوة المسلحة، وما هي اللحظة التي ينبغي فيها أن نضغط بأدوات السياسة والتفاوض.
في المقابل لا بد من التنبيه على أن مقاومة بلا رؤية للنهضة على المستوى الداخلي هي بدورها عرضة للخطر نفسه، أن تسقط في أسر الصورة والمشهد من دون تبني رؤية للمستقبل، فيغدو حضور القنوات الفضائية في تغطية المشهد أهم من إنفاق الوقت في الاتفاق على منهج تغيير.
أمكنة النهضة ومساحات الوجود
إن أحد مفاتيح النهضة المنسية هو فهم تحولات المكان لا تتوه مشاريعنا في متاهات اليومي، فتمر الحياة من دون أن نملك التحقق والعيش بشكل يليق بنا كبشر. وقد انتقدت هبة رءوف مختلف التيارات بقولها: “كل التيارات الفكرية والاجتماعية والسياسية لها هدف هو التغيير، بعضها يريد أن يغير واقعه، والبعض الآخر لبذي يحمل رؤية كونية أو رسالة أيديولوجية يريد أن يغير بها واقعه، والعالم.
السؤال: كيف نضع تصورا للنهضة يغيرنا ويغير العالم؟ بل السؤال الحقيقي: ما تصورنا للعالم؟ ترى هبة رءوف أنه إذا نحن نجحنا في تطوير فقهنا عن التصورات المكانية للذات والآخر التي حكمت العقل والنظر الفقهي طويلا، وإذا أدركنا العلاقة المركبة بين بناء النهضة وتغيير العالم، وإذا كان الصراع بين القوى واختلال توازنات العدالة مسألة تاريخية معروفة مرتبطة بالظاهرة الإنسانية فإن صيغ العلاقة وسيناريوهات إدارتها ومسارات وأشكال مقاومة الظلم تتنوع وتتغير، وتجاهل ذلك لمصلحة تفكير بسيط يعكف على الذات، ويتعامل بردود الأفعال مع التحديات اليومية يعني ببساطة السير بخطى واثقة ثابتة نحو الهزيمة. وبالتالي في ظل هذه المعادلات لم يعد ممكنا أن نكون “مادة” لصراع الحضارات، بل لا بد من أن نكون فاعلا على الساحة الدولية له وزنه واعتباره.
النهضة وصيغ التمدن
لقد بقي العقل العربي حسب هبة رءوف لعقود طويلة في أسر تصورات نظرية بالغة العمومية عن النهضة، وانفرد المفكرون والمصلحون بالحديث عن النهضة، في حين انشغل الخبراء في المجالات المختلفة بالعمل في مواجهة الهيمنة الغربية على العقل العلمي ونظرا إلى أن الجدل حول العلوم الطبيعية يقل فيه البعد الحضاري ويغلب عليه بُعد التسابق إلى الأحداث من الاكتشافات والنظريات العلمية، فقد بقي الجدل “أيديولوجيا” بدرجة كبيرة في المجال العربي والإسلامي حول النهضة.
في الحالات، إن قضايا النهضة لم تعد شؤونا فكرية تخضع للفقه الحضاري والنظر الفلسفي في العلاقة بين الإسلام والغرب وملفات التغريب والاستقلال الحضاري، بل صار الأمر يحتاج من العقل المسلم والعقل العربي إلى شحذ أدوات فقه الأولويات ونظرية المصلحة والنظر إلى خريطة العالم بشكل مركب وإلى خيارات النهضة بشكل قطاعي، سواء من ناحية القطاعات المتنوعة والمركبة في الواقع المعاصر للساحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، أو القطاعات التي ترتكز عليها تجربة النهضة بالأساس بتقديم مساحة على أخرى، أو التخلي عن الاختيار وتقدم رؤية التكامل والتوازي بين المسارات.
هكذا يتضح، أن النهضة لتكون فعلا نهضة حقيقة لا بد أن تنطلق من البيت الداخلي، هذا البيت الذي يعرف تعدد فكريا أيديولوجيا وسياسيا، ومن هنا إذا لم يجمع هؤلاء على منهج تصوري للإصلاح، فمن الأكيد أن الحديث عن النهضة مجرد خيال.