القراءة الحداثية للقرآن في ميزان الفيلسوف طه عبد الرحمن
“لقد أبى بعض الدارسين إلا أن يبنوا على أن الأمة المسلمة ينبغي أن تحذو في علاقتها بتراثها وتاريخها حذو الغرب في علاقته بتراثه وتاريخه، فجاءوا بقراءات للقرآن الكريم تقطع صلتها بالتفاسير السابقة، طامعين في أن يفتحوا عهدا تفسيريا جديدا؛ ولئن سلّمنا بأن هذه القراءات تتضمن عناصر من الابتكار، فلا نسلم بأن هذا الابتكار إبداع حقيقي، لأن شأن الإبداع الحقيقي أن يكون موصولا؛ وهذا إبداع مفصول، إذ قطع صلته بتراثه، تقليدا للغير، لا اجتهادا من الذات؛ وكل إبداع هذا وصفه لا يكون إلا بدعة”،1 بهذا افتتح طه عبد الرحمن نقاش قضية القراءات الحداثية للقرآن الكريم؛ فكيف قارب طه هذا الموضوع الشائق والمثير في نفس الوقت؟
يؤكد طه على مسألة مركزية وهي أن القراءات الحداثية تسعى إلى “أن تُحقِّق قطيعة معرفية بينها وبين ما يمكن أن نُطلق عليه “القراءات التراثية” وهذه على نوعين: أحدهما القراءة التأسيسية، وهي التي قام بها المتقدمون، مفسرين كانوا أو متكلمين أو صوفية؛ والثاني القراءة التجديدية، وهي التي قام بها المتأخرون، سلفيين إصلاحيين كانوا أو سلفيين أصوليين أو إسلاميين علميين”.2
هذه القراءات تختص بكونها تفسيرات للقرآن “تضع للإيمان أسسه النظرية أو تقوي أسبابه العملية، أي أنها قراءات ذات صبغة اعتقادية صريحة؛ أما القراءات الحداثية، فهي تفسيرات لآيات القرآن تخرج عن هذه الصفة الاعتقادية، وتتصف بضدها، وهو “الانتقاد”؛ فالقراءات الحداثية لا تريد أن تحصّل اعتقادا من الآيات القرآنية”.3 وهنا تكمن الخطورة.
القراءات الحداثية المقلّدة:
بعدما تقرر أن القراءات الحداثية هي قراءات انتقادية لا اعتقادية؛ فقد وضعت هذه القراءات استراتيجيات أو خططا انتقادية وهي:
1- خطة التأنيس:
هذه الخطة تستهدف أساسا رفع عائق القُدسية؛ ويتمثل هذا العائق في اعتقاد أن القرآن كلام مقدس؛ والآلية التنسيقية التي تتسول بها خطة التأنيس في إزالة هذا العائق الاعتقادي تكون بواسطة عمليات منهجية خاصة، منها:
- حذف عبارات التعظيم: القارئ الحداثي يحذف العبارات التي يستخدمها جمهور المؤمنين في تعظيمهم لكتاب الله مثل “القرآن الكريم” أو “القرآن العزيز”.
- استبدال مصطلحات جديدة بأخرى مقررة: يعمد هذا القارئ إلى استعمال مصطلحات يضعها من عنده مكان مصطلحات متداولة كأن يستعمل “الخطاب النبوي” مكان مصطلح “الكلام الإلهي”.
ومن نتائج خطة الأنسنة هذه “فصل النص القرآني عن مصدره المتعالي وربطه كليا بالقارئ الإنساني، بدعوى أنه لا سبيل إلى إدراك المقاصد الحقيقية للمتكلم المتعالي لانقطاع صلته بنا وغيابه عنا”.4 وهذه نتيجة تضرب في قدسية النص القرآني بحيث يصبح كأنه نص بشري.
2- خطة التعقيل:
خطة التعقيل أو العقلنة، تستهدف أصلا رفع عائق “الغيبية” ويتمثل هذا العائق في اعتقاد أن القرآن وحي ورد من عالم الغيب؛ وآلية التنسيق التي تتوسل بها خطة التعقيل في إزالة هذا العائق تكون بواسطة عمليات منهجية، منها:
أ-نقد علوم القرآن: يعتقد القارئ الحداثي أن علوم القرآن التي اختص بها علماء المسلمين تُشكّل وسائل معرفية متحجرة تصرفنا عن الرجوع إلى النص القرآني ذاته “.5
ب_ التوسل بالمناهج المقررة في علوم الأديان، لم يتردد القارئ في نقل مناهج علوم الأديان المتبعة في تحليل ونقد التوراة والأناجيل إلى مجال الدراسات القرآنية، معتبرا وضع الكتب المنزلة واحدا”.6
ولهذه الخطة كذلك نتائجها، منها:
أ_ تغيير مفهوم الوحي: يرى القارئ الحداثي أن مفهوم الوحي المتداول والموروث عن التصور التقليدي لم يعد من الممكن قبوله”،7 وهذا يعني إفراغ الوحي من محتواه، وهو ما تسعى إليه الدراسات الحداثية.
ب_ تجاوز الآيات المصادمة للعقل: يقرر القارئ الحداثي أن كل ما يصادم العقل في النص القرآني من قضايا أو أخبار لا يعدو كونه شواهد تاريخية على طور من أطوار الوعي الإنساني تم الآن تجاوزه.8 وهذه النتيجة مردود عليها؛ فكل ما في القرآن له دلالات وحكم والأكثر من كل هذا أنَّ واضع القرآن هو الله.
ويعلق طه بالقول “إذا نحن دققنا النظر في الخطط النقدية التي اتبعها أهل القراءة الحداثية وجدناها مأخوذة من هذه المبادئ الضابطة للواقع الغربي على الوجه الآتي:
- خطتهم في التأنيس متفرغة على المبدأ الذي يقضي بالاشتغال بالإنسان دون سواه.
- خطتهم في التعقيل متفرغة عن المبدأ الثاني الذي يقضي بالتوسل بالعقل دون سواه.9
وهكذا، فقد رضي أصحاب القراءة الحداثية بأن يضعوا أنفسهم، اختيارا، تحت الوصاية الثقافية لصانعي الثقافة الغربية؛ فكانت قراءاتهم عبارة عن قراءات القاصرين لا قراءات الراشدين.10
فكيف نحقق الإبداع في قراءة الآيات القرآنية؟
القراءة الحداثية المبدعة
يرى طه أنه “لكي يتأتى لنا الجواب عن السؤال المطروح، نحتاج إلى الأخذ بالحقيقتين التاريخيتين الآتيتين:
أحداهما أنه لا دخول للمسلمين إلى الحداثة إلا بحصول قراءة جديدة للقرآن الكريم؛ ذلك أن القرآن -كما هو معلوم- هو سر وجود الأمة المسلمة وسر صنعها للتاريخ. والثانية أن واقع الحداثة في المجتمع الغربي قام -كما هو معروف- على أساس مواجهة المؤسسات الكنسية، ذلك أن هذه المؤسسات مارست وصايتها على الدين ووصاية على الروح والثقافة والسياسة جميعا باسم الوصاية الدينية.11
أ_ خطة التأنيس المبدعة: لا تقصد خطة التأنيس المبدعة “محو القدسية” كخطة التأنيس المقلدة، وإنما تقصد تكريم الإنسان ومعلوم أن تكريم الإنسان يتضمن إلغاء كل تقديس في غير موضعه، بدءًا من تقديس الفرد أو الذات”.12
ب_ خطة التعقيل المبدعة: وهي عبارة عن التعامل مع الآيات القرآنية، بكل وسائل النظر والبحث التي توفرها المنهجيات والنظريات الحديثة، توسيعا لنطاق العقل. يقول طه معلقا “إن الانشغال بالعقل في خطة التعقيل المبدعة أكثر منه في خطة التعقيل المقلدة”.13
وبعد هذه الوقفة الجديرة بالاهتمام يخلص طه إلى أن القراءات الحداثية هي تفسيرات مقلِّدة اقتبست كل مكونات خططها من الواقع الحداثي الغربي في صراعه مع الدين، هذا الصراع الذي آل إلى ترك العمل بقيم “الألوهية” و “الوحيانية” و “الأخروية”.
أخيرا وليس آخر، إن دراسة النص الديني عموما والقرآني خصوصا، ليس أمرا هيّنا، لكون الباحث يتعامل مع نص له قدسية، ما يتطلب الحيطة والحذر من السقوط في مزالق منهجية تكون نتائجها غير مقبولة أكاديميا، ولعل الدراسات الحداثية للقرآن الكريم قد سقطت فعلا في ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، طه عبد الرحمن، الناشر المركز الثقافي العربي، ط1، 2006، ص: 175
2 – نفسه، ص: 176
3 – نفسه
4 – روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، طه عبد الرحمن، ص: 181
5 – روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، طه عبد الرحمن، ص: 181
6 – نفسه، ص: 181- 182
7 – نفسه، ص: 183
8 – روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، طه عبد الرحمن، ص: 184
9 – نفسه، ص: 189
10- نفسه، ص: 193
11 – روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، طه عبد الرحمن، ص: 193- 194
12 – نفسه، ص: 197
13 – نفسه، ص: 201