تعد مشكلة الإنسان المشكلة الفلسفية التي شغلت اهتمام المفكرين على مر العصور؛ فمنذ قديم الزمان كان الاهتمام منصبا على دراسة ماهية الحياة الإنسانية وماهية طبيعة الإنسان، وعلاقته بنفسه وبالآخرين وطبيعة وجوده في الكون، وقد جاءت دراسة أزمة الإنسان وطبيعة وجوده في الفكر الفلسفي نابعة من أن الفلسفة تشكل عقلانية للعالم؛ فهي تعد نظرة نوعية تركز على استقصاء مكانة الإنسان وإمكاناته التي تؤهله لمسايرة حركة الوجود.
الفلسفة الإغريقية ومشكلة الإنسان
وقد ركزت الفلسفة الإغريقية على دراسة أزمة الإنسان، ويعد هيرقليطس، أحد الفلاسفة الذين ركزوا على دراسة الإنسان، وكان اهتمامه منصبا على دراسة التشيؤ وانعكاسه على الإنسان، إذ يؤكد “هيرقليطس أن المأساة الكبرى للإنسان تكمن في النائمين، فالنائمون هم المتشيئون الذي يجردون العالم من حقيقته الجوهرية، التشيؤ هو أن العلاقة الاجتماعية بين الناس تتخذ شكلا خياليا من العلاقة؛ فتصبح وكأنها علاقة بين الأشياء ومن ثم يعامل الناس كالأشياء”1 ولعل هذا ما نعيشه اليوم، فالإنسان أصبح مجرد شيء وليس إنسانًا له إنسانيته.
وينقلنا البشتاوي إلى سقراط، ويرى أن “أزمة الإنسان عنده هي في حقيقتها أزمة فكرية، إذ إن حقيقة الوجود لا يمكن لها أن تتكشف إلا عن طريق العقل المضاء بالمعرفة، والذي يولد لدى الإنسان حالة الإيمان بالمثل والقيم الإنسانية السامية التي يتطلب تحقيقها الشجاعة في طرح الأفكار الفلسفية التي من شأنها أن توصل الفلاسفة والمجددين إلى الموت، وهكذا كان الأمر مع سقراط الذي حكم عليه القضاء بالموت بسبب أفكاره وطروحاته الفلسفية”.2 وهذه رؤية ثاقبة من سقراط، فالفكر محدد رئيس في تجاوز الكثير من الأزمات في الوجود كله.
وقد خصص البشتاوي الحديث عن جدلية العلاقة بين الإنسان والآلة في الفكر الفلسفي، وهو موضوع له قيمته سواء في الزمن الغابر أو في حاضرنا. وذكر أن الفكر اليوناني القديم قد نفر من الآلة فاختفت من حياة الإنسان، ويرى اليونانيون أنه إذا كانت الآلة تحل محل اليد في محاربة العدو، فما قيمة الشجاعة إذن؟ كذلك أدركوا خطر البطالة الذي يتولد عن التوسع في استخدام الآلة، والأهم من ذلك أن اليونانيين لم يكونوا يشعرون بالحاجة إلى الآلة نظرا إلى شيوع نظام الرق الذي يهيئ الإمكانات للاعتماد على الجهد البشري والاستغناء عن الآلة”.3
يمكن القول إذن، أن الآلات البشرية جعلت المجتمع اليوناني في غنى عن الآلات الميكانيكية ومع ذلك فلم يتوان أرسطو عن الإعلان بأن المدينة المثلى ينبغي ألا تجعل من الصناع مواطنين فيها، لأن المهنيين لا تتعدى وظائف إشباع الحاجات المنحطة لدى الإنسان، ولأن المهنة عن اليونانيين القدماء أصبحت مرادفة لمعاني الانحطاط والتدهور الأخلاقي، وهذا ما يفسر موقف أفلاطون المعادي لكل ما له صلة بالعمل المادي بوصفه لا يعمل على تشويه البدن فحسب وإنما يشوه الروح أيضا”.4
الفلسفة الحديثة العقلانية
هذا التفكير، سيغيب مع الفلسفة الحديثة، لكونها جاءت ممهدة لعصر التصنيع، فقد نزعت نزعة عقلانية، ويعد فرانسيس بيكون مؤسس المادية الجديدة والعلم التجريبي، وهو من أوائل الفلاسفة الذي دعوا إلى اتخاذ العلم سبيلا إلى الارتقاء بحياة الإنسان العملية، وذلك حينما أعلن أن الغرض من التعليم هو زيادة سيطرة الإنسان على الطبيعة من خلال توجيه العلم وجهة جديدة بربطه بتطور الصناعة.
إن بيكون إذن، “قد وقف بين ثقافة العصور الوسطى والعلم الحديث، ليؤكد من خلال فلسفته ضرورة التطبيقات العملية من أجل إنجاح النهضة الجديدة التي من شأنها العمل على تقدير مظاهر الكون المحيطة بالإنسان، وهو بذلك ينطلق من أن هدف العلوم الأسمى يكمن في إثراء الحياة الإنسانية بالاكتشافات العلمية التي من شأنها رفع المستوى المعيشي للإنسان وتطوير المجتمع، وهو بنزعته التجريبية التي تقوم على تطبيق العلم على مجالات الصناعات التكنولوجية، إنما يحدث بذلك تحولا فلسفيا يقضي بقبول فكرة الآلية ووضع الأساس الفكري للعصر الصناعي الحديث”.5
ولا شك في أن التكنولوجيا تلعب دورا تقدميا بوصفها علم تحويل الأشياء إلى أدوات مروضة مسيطر عليها، بهدف استغلالها لأغراض اجتماعية وحضارية، وعندما أصبحت التكنولوجيا هي الشكل العالمي للإنتاج المادي، والقوة الكلية المحددة لحياة العصر وثقافته في ظل مجتمع طبقي قمعي اضطهادي، أصبح منطقها هو المحدد للعلاقات الاجتماعية أيضا، فبدلا من أن تكون قوة التكنولوجيا قوة تحريرية، أمست قوة لتحويل البشر إلى أدوات.
غربة الإنسان عن جوهره
وبعد موضوع الإنسان والآلة، كان لموضوع الاغتراب أيضا حضور في دراسة البشتاوي حيث يقول “لعبت مشكلة الاغتراب دورا هاما في الفكر الفلسفي، ولم يخرج الاغتراب عن كونه إشارة لغربة الإنسان عن جوهره وابتعاده عن المقام الذي ينبغي أن يكون فيه، ويمكن إدراك بذور فكرة الاغتراب في بحث سقراط عن ذاته وحواره مع السوفسطائيين الذي كشف عن اغترابه قياسا إلى ذرائعهم المعرفية ليدفع حياته ثمنا لذلك الاغتراب”.6
ومن الأمثلة، يذكر البشتاوي جان جاك روسو الذي استخدم مفهوم الاغتراب بشكل مباشر حينما ربطه بقيام الإنسان ببيع نفسه وتسليمها لإنسان آخر بحيث يجعل من نفسه عبدا له. يقول البشتاوي “إن ظاهرة الاغتراب عند روسو لا تنفصل في حقيقتها عن الفلسفة السياسية، ففلاسفة العقد الاجتماعي يتفقون في نظرتهم لهذه الظاهرة على أنها تشكل تنازلا عن الحرية الطبيعية لسلطة المجتمع السياسي، وهي ثمن الأمن الاجتماعي الذي يتحقق للإنسان في ظل المجتمع المدني الذي تقع مسؤولية توفر الأمن فيه على الدولة”.7 فروسو يرى أن الإنسان يولد حرا، لكن يصبح فيما بعد مكبلا بالقيود نتيجة لحالات الاضطهاد والقهر التي تحد من حريته وتحول بينه وبين تحقيق ذاته الإنسانية.
ومع تعدد مفاهيم الاغتراب وأشكاله وتنوع حالاته، واختلاف وجهات نظر المفكرين حوله، نجد ثمة أشكالا وظواهر وردت في الأدبيات المعرفية تشير إلى أهم مظاهره، كمقدمة للتحرر منها والعودة إلى الجمع والذات المتوازنة، ومن أبزرها8:
- فقدان المعايير الواضحة وغياب حدود الفهم المشترك.
- التنافر الحضاري، والانسلاخ عن القيم الأساسية في المجتمع، والإحساس بالتناقض وعدم التكيف معه.
- العزلة الاجتماعية والنبذ والاحتقار والتقوقع.
- فقدان الهدف الواضح وعدمية الحياة، وضيق أفقها.
- والاغتراب النفسي الذي يعني أن الفرد أصبح بعيدا عن التواصل مع ذاته.
الخاتمة
وعلى سبيل الختم، إن ما طرحه الباحث البشتاوي يعتد طرحا متميزا، لكون موضوع الإنسان في الفلسفة عموما، غاب شيئا ما في النقاشات، وهو غير مبرر، نظرا لقيمة الإنسان وفاعليته والتحديات التي تواجهه، إذ إننا أصبحنا أمام تخمة من الحديث عن التكنولوجيا ونسينا مَن وراءها، ما أدى حقيقة إلى تهميش الإنسان وتغييبه لدرجة أصبح كغيره من الأشياء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- أزمة الإنسان في الأدب المعاصر، د. يحيى البشتاوي، دار ومكتبة الكندي للنشر والتوزيع عمان، ط1، 2014، ص: 11
2- نفسه، ص: 17
3- أزمة الإنسان في الأدب المعاصر، د. يحيى البشتاوي، ص: 60
4-نفسه، ص: 62
5 – نفسه، ص: 66
6 – أزمة الإنسان في الأدب المعاصر، د. يحيى البشتاوي، ص: 99
7- نفسه، ص: 93
8- نفسه، ص: 117-118