قصة العزلة ومعركة النجاة
على متن الخيال الروائي، وسط البرودة القارسة والخواء الغامض، يبدو الفرار من الحياة على كوكب الأرض هو السبيل الوحيد للخلاص ..!! ربما كان الهروب إلى عوالم أخرى مأمولة عبر الفضاء الواسع هو أحد أشكال الإسقاط التعبيري العاكس لما يعيشه العالم وسط التهديدات التي باتت تحيط بالبشرية، سواء وباء كورونا أو التغييرات المناخية. بالطبع، كان للسينما إضاءاتها ومعالجاتها الافتراضية لهذا الواقع، وهو ما قدمه الفيلم الأمريكى “سماء منتصف الليل/ Midnight Sky”، أحدث أعمال الممثل العالمي الشهير “جورج كلوني” الذي قام ببطولته وإخراجه أيضاً، حيث بدأ بث الفيلم عبر منصة “نتفليكس” في 23 ديسمبر/كانون الأول 2020. والواقع أن الفيلم يلقي نظرة فاحصة على مشاعر العزلة بطريقة مجازية واحترافية وسط حالة من التنبؤ اللافت للانتباه، خاصة وأنه انتهى تصويره قبيل بدء الجائحة وفرض إجراءات التباعد الاجتماعي.
يعد الفيلم هو التعاون الأول بين ” كلوني” و”نتفليكس”، وهو مأخوذ عن رواية استشرافية تنتمي للخيال العلمي للكاتبة “ليلي بروكس دالتون/ Lily Brooks-Dalton” الصادرة عام 2016 بعنوان “صباح الخير منتصف الليل/Good Morning Midnight “. قام بكتابة سيناريو وحوار الفيلم “مارك ل. سميث” أما التصوير فكان لـ “مارتن روه” والموسيقا التصويرية ألفها ” ألكسندر ديسبلت”. شارك “كلوني” في التمثيل كل من “فليستي جونز”، “ديفيد أويلو”، “تيفاني بوون”، “ديميان بشير” و “صوفي رانديل”.
تدور أحداث الفيلم في مرحلة ما بعد نهاية العالم بعد وقوع كارثة عالمية هددت الحياة على كوكب الأرض، فيما قدم “كلوني” شخصية عالم فيزيائى شهير يُدعى “أوغستين لوفتهاوس”، يعيش وحده داخل مرصد بحثي بالقطب الشمالي، تم إجلاء كل موظفيه، حيث رفض الذهاب معهم، غير عابئ بما تبقى له من وقت، بينما تظهر فجأة داخل المرصد طفلة صغيرة تُدعى “إيريس/Iris” تبلغ من العمر ثماني سنوات، لا تتكلم، ويضطر لرعايتها، رغم ظروفه الصعبة. يحاول “أوغستين” التواصل مع أحد الأطقم التي قامت بإجلاء المنطقة من السكان، ليعودوا ويأخذوا الطفلة، لكن موجات الإرسال كانت ضعيفة ولا أحد يجيبه. يتفاجأ أيضاً أن هناك سفينة فضاء تابعة لوكالة ناسا في طريقها للعودة إلى كوكب الأرض خلال ساعات بعد مهمة استكشافية استغرقت عامين في كوكب المشترى. ومن ثم يقرر أن يقطع مسافات طويلة عبر الثلوج والطقس السيء بمرافقة الطفلة الصغيرة، حتى يصل إلى محطة رادار ذات إشارة أقوى، ليمكنه تحذير طاقم السفينة من العودة إلى الأرض، حتى لا يتعرضون للموت المؤكد.
بدأ استهلال الفيلم شديد الإثارة، فمنذ المشهد الأول يبدو أن شيئاً مروعاً قد حدث، حيث تتوقف الكاميرا للحظات أمام مكتب خاوٍ يوجد عليه تمثال صغير لـ “أنوبيس” -الإله المصري القديم للموت- فيما يلف الصمت كل شيء وتتوارى الوجوه البشرية وكأنها قد تآكلت بلا رجعة. هذا المكتب كان داخل مرصد “باربو”، محطة الأبحاث التي يتم إجلاء جميع العاملين بها، والذين يصطفون أمام طائرات هليكوبتر، كي تقلهم إلى وجهة مجهولة لم يتم الإعلان عنها. لا أحد يعلم إلى أين ذاهبون؟ ربما سيقبعون في مخابئ مؤقتة تحت الأرض. فالغلاف الجوي يتسمم بفعل كارثة مروعة يمتد أثرها بلا هوادة في جميع أنحاء العالم، فيما سيصل هذا التلوث، في النهاية، عند القطبين- المحطة الكائنة في الدائرة القطبية الشمالية.
لا يهم ما إذا كان فيروسًا أو إشعاعًا هو الذي جعل نهاية العالم تقترب، لكنه الفناء الذي بات يحكم قبضته على المشهد الافتتاحي للفيلم، حيث انفضت الطيور من السماء كنذير للموت، فيما يظهر “كلوني” وهو يجلس وحده على مائدة الإفطار، يلعق بعض الحبوب، ثم يتنقل إلى كرسي مجهز ويضع جهازًا وريديًا في يده لتغيير دمائه، لكونه مُصاباً بسرطان متقدم. ينظُر، في حزن، من خلال شاشة في الأعلى ترصد نجوم الفضاء، وكأنه يخاطب أملاً غيبياً، ربما أجابه بأنه لا يزال هناك فرصة في النجاة، ثم يغط في ثبات عميق بفعل المُسكنات.
بالطبع ساهم ذلك الاستهلال المكثف في بداية الأحداث وانفراد “كلونى” وحده بمشهد البداية بتعميق معاني العزلة. لقد كان “الخواء” سيد الموقف، بينما البشر يتوارون، لتبقى القباب الجليدية التي تلف “المرصد” البائس تعكس برودة الواقع والعُزلة المترامية الأطراف، فيما تدثر “سماء منتصف الليل” المرصعة بالنجوم المتناثرة وِحدة البشرية وتُلقنهم درساً في التأمُل ومراجعة النفس، لقد بدا الصمت الليلي المحفوف بسكينة لا تخلو من اغتراب كـ “شعاع” ينشُر رسائل الإصرار على الخلاص وإيجاد سبيل للخروج من النفق المظلم.
ليس “خيالاً علمياً” فحسب!
“التأمل والكفاح من أجل النجاة”.. كانت الرؤية الأكثر عمقاً التي دارت في فلكها أحداث الفيلم، والرسالة التي أراد صُناع الفيلم تمريرها للجماهير. لم يكن فيلم “سماء منتصف الليل” ينتمي لفئة أفلام الخيال العلمي فحسب، وإنما كان يخلق حالة من التماهي بين الواقع والخيال بطريقة تجعل المتلقي يستشعره واقعاً قابلاً للتصديق، خاصة وسط ما يشهده العالم مؤخراً من مفاجآت غير سارة، الأمر الذي جعله يشبه استشرافاً للمصير الذي ربما وصلت إليه الأرض في المستقبل القريب بفعل أخطاء البشر، حيث توافقت أجواء العزلة التي هيمنت على الأحداث مع ما نحياه الأن بفعل “الجائحة”.
لقد اختصمت العديد من مشاعر العزلة والندم والأمل داخل رواية “دالتون” وسيناريو “سميث”، وهو الأمر الذي جذب انتباه “كلوني” بشدة للعمل، لكونه يطرح فرضية أن المشاكل التي نواجهها هي المشاكل التي جلبناها لأنفسنا، مما جعل الفيلم يغلب عليه طابع الدراما الإنسانية أكثر من كونه فانتازيا خيالية. كذلك الموسيقا التصويرية كانت أشبه بحوار موازي يفك أكواد الصمت الإجباري بفعل انفضاض البشر، والتي كانت تدثر صوت الخواء، حيث غلب على التيمة الموسيقية نزعة التأمل، خاصة وأن الفيلم يحاكي مفهوم “الافتداء” وما يمكن أن نقدمه نحن البشر إلى بعضنا البعض في رحلة الكفاح من أجل البقاء.
المفارقة أنه عندما قرر “كلوني” تمثيل وإخراج الفيلم، بدأ التصوير الفوتوغرافي الرئيسي في منتصف أكتوبر 2019 وانتهى قبل الإغلاق في فبراير من عام 2020، أي قبيل ظهور وانتشار الوباء وقبل هجمة الحرائق في مستهل عام 2020، إلا أن الكوارث التي يواجهها كوكب الأرض في الفيلم تبدو متشابهة بشكل مخيف مع الواقع، مما أضفى روح الواقعية على العمل، لكونه يحاكي الوضع المأزوم الذي نحياه الأن.. لقد أضفى الواقع المُستجَد ظلالاً جديدة للفيلم لم يكن “صُناعه” أنفسهم يتوقعونه. يقول “كلوني”: “بعد أن انتهينا من تصوير الفيلم، ظهر الوباء وأصبح من الواضح أن المغزى الرئيسي الذي كانت تنطوي عليه القصة هو حاجتنا الماسة للعودة إلى الوطن، الوطن الذي غادرنا فجاءة.. لقد صِرنا نتوق للقرب من الأشخاص الذين نحبهم”.
تساؤلات حرجة حول مصير الكوكب
على الرغم من القالب الميلودرامي الذي تدور خلاله أحداث الفيلم، كان هناك بصيصًا من الأمل ينبض داخل سيناريو “نهاية العالم” الوشيكة. فمن الصعب إنكار أن البشر لم يبلوا بلاءً حسناً في الحفاظ على الكوكب بدءًا من أزمة التغير المناخي ومروراً بتعالي نبرة الكراهية والاحتقان المجتمعي وانتهاء بما نواجهه حالياً من وباء يصيب البشر بالعجز التام. لكن الفيلم يسوق للجمهور رسالة بعينها تتعلق بضرورة إيجاد سبيل للخلاص مهما كلفنا الأمر ومهما بدا ذلك منافياً للواقع ومهما بلغت حجم الأخطاء. لقد أراد “كلوني” أن يكون هناك لمحة ضوء في قصة قاتمة حول نهاية البشرية، وكان دافعه لإخراج العمل هو التنقيب داخل كل فرد منّا عن وميض الإرادة الذي يدفعه لمواصلة الحياة من أجل غاية ما، حتى لو كانت هناك عراقيل كثيرة تعوق ذلك.
كذلك أضاف “كلوني” تحدياً جديداً للفيلم عزز به مشاعر العُزلة، عندما قدم الطفلة “أيريس” التي تقاسمت معه المشاهِد الخاصة بظهوره، صامتة طيلة الأحداث. لم تفصح القصة إذا ما كانت الطفلة مصابة بفقدان النطق أم لا ترغب في الكلام، لكنها كانت شديدة التعبير بنظراتها التي بدت، في كثير من الأحيان، توجه رسائل التساؤل واللوم لكونها لا تفهم من المسئول عما تعيشه الآن؟ وبفطرة الأطفال كانت ترى أن الكبار، بالطبع، هم المسئولون.
كذلك بدت أحداث الفيلم وكأنها منقسمة بين عالمين بعيدين يفصلهما هامش من الندم والتمني، حيث جسد “أوغستين” و “أيريس” أخر ملمح بشري على كوكب الأرض الموشك على الفناء، بينما كان طاقم سفينة الفضاء “الأثير” القادمة من كوكب المشترى، ترعى الأمل الوليد في إمكانية استئناف الحياة من جديد. وانطلاقاً من التشبث بذلك الأمل سابق “أوغستين” السويعات القليلة المتبقية قبيل دخول مركبة الفضاء “الأثير” المجال الجوي لكوكب الأرض، كي يحذرهم من عدم العودة. ينجح “أوغستين” بعد رحلة قاسية في الوصول إلى محطة الرادار وإبلاغ السفينة بالكارثة التي ألمت بالأرض، كي يغيروا وجهتهم مرة أخرى عائدين إلى كوكب المشترى.. ولكن الخبر نزل عليهم كالصاعقة، حيث سادت مشاعر الأسى حيال ما عرفوه عن الوطن.. كانوا عائدين بإجابات كلفتهم عامين من البحث عما إذا كانت هناك فرصًا للحياة على كوكب المشترى، حيث يقول أحدهم: “لقد عُدنا بكل الإجابات المطلوبة، ولكن مع الأسف ليس لدينا إجابة واحدة عما حدث للكوكب الأم”.
يقرر أحد أفراد الطاقم استقلال مكوك فضائي منفصل مُلحقاً بالمركبة للعودة للأرض مهما كان حجم الخطر الذي سيواجهه، بحثاً عن أسرته، فيما يرافقه فى رحلته إلى المجهول أحد زملائه الذي أراد أن يعود معه بجثمان زميلتهم التي لقت حتفها في حادث أثناء رحلتهم، لتكون لمسة الوفاء الأخيرة التي يقدمها قرباناً لروحها حتى وإن لقى حتفه هو الأخر. بينما تقرر قائدة السفينة “سولي”- التي قامت بدورها الفنانة “فيلستى جونز”- وزميلها العودة مجدداً إلى كوكب المشترى. كانت اللقطات الختامية من الفيلم تشبه قصاصات من التأمل.. هناك مَن يعودون “للأرض” رغم ما ألم بها من خراب، لأنهم يتركون بها أحبائهم، فالحياة بالنسبة لهم لن تجدي نفعاً دون ذويهم.. وهناك “أوغستين” الذي اكتفى باختتام حياته بإنقاذ حياة الأخرين، لكونها الغاية الأسمى من وجهة نظره في ظل موت محقق يزحف إليه لا محال، ليكتشف مصادفة أن قائدة السفينة “سولى” التي حاول إنقاذها هي ابنته غير الشرعية من علاقة حب لم يتجرأ على إكمالها في ظل حياته البحثية القاسية. أما “سولى” قررت أن تهجر كوكب الأرض عائدة إلى كوكب المشترى كي تسطر بداية جديدة.
التباري بين الواقع والخيال
يُحسَب للفيلم الابتعاد عن أنظمة المحاكاة الرقمية لمواقع التصوير، حيث جرى التصوير بالفعل في القارة القطبية في أيسلندا في درجات حرارة بلغت 40 درجة تحت الصفر، إذ أصر “كلوني” على التصوير الحي رغم البرودة القارسة، رافضاً أي خدع سينمائية للتصوير داخل أستوديوهات، قائلاً: “نعم، كان التصوير صعباً. والرياح شديدة. لقد رُبطت والفتاة الصغيرة بحبال غير مرئية، لكي نضمن بقاءنا سوياً وصاحبنا عدد قليل من الفنيين في هذه الظروف الصعبة. كان الثلج يتساقط في كل مكان. لكن الضوء كان جميلاً والنطاق الهائل للسماء جعلنا ننغمس في تفاصيل الرواية. كانت الطبيعة ملهمة رغم قسوتها المناخية”.
لقد مثلت الأجواء التي تم فيها التصوير تحدياً صعباً لصُناع الفيلم، حيث قضى فريق العمل ما يقرب من شهر في أيسلندا، فيما ظلوا لمدة اسبوعين عالقين وغير قادرين على الوصول إلى معسكر التصوير، وعن طريق هواتف مخصصة للاستخدام في ذلك الطقس وسيارات جيب أمكنهم الوصول إلى الجبل الجليدي. كما تم الاستعانة بمعدات ذات تقنية عالية تم إنشاؤها خصيصًا بواسطة شركة ARRI العالمية لإمكانية تثبيت الكاميرات على الجليد. كذلك جرى تصوير بعض اللقطات بواسطة طائرة بدون طيار.
كانت هناك مهمة صعبة أيضاً أمام مصمم الانتاج “جيم باسيل” فيما يخص تصميم سفينة الفضاء بطريقة حداثية تواكب عام 2049، حيث بدت مركبة الفضاء من الخارج مثل زخارف شجرة عيد الميلاد الباروكية، وفق تصميم تخيلي تم الحصول عليه بواسطة طابعات ثلاثية الأبعاد- وذلك بعد نقاش مع عدد من الباحثين في وكالة ناسا- كذلك جرى تصميم مركبة الفضاء الحداثية بحيث يكون لها مجال جاذبية في بعض المناطق بينما ينعدم في مناطق أخرى، مع إمكانية التنفس بشكل طبيعي داخل المركبة بفضل تقنيات حداثية يفرض توافرها بعد ثلاثين عاماً.
يقول “مارتن روه”، مدير التصوير: “كان تفكيري منصباً على كيفية التصوير بكاميرا شبه عائمة حتى لا أفقد الشعور بالجاذبية، وفي الوقت نفسه حتى أشعر بانعدام الوزن. هناك أيضاً بعض التسلسلات للسير في الفضاء التي صوّرت باستخدام كاميرات خاصة يمكن عزلها ميكانيكياً عن حركة المُشغِل، مع حركة دوران مستمرة للكاميرا، لتعطي الشعور بالوضع المقلوب كما هو حال كتلة الأجسام مع انعدام الجاذبية”.
والواقع أنه تم تصميم مشاهد الفضاء الخارجي بخبرة واضحة، وجرى تصويرها بشكل جيد، وكأنها تعيد ملء الفراغ السينمائي الذي خلّفه وباء كورونا على الأرض، حتى الصمت الذي شغل مساحات عديدة من الفيلم كان له وقعًا مهيبًا حول أبطال العمل، الأمر الذي أسند بطولة حقيقية ومستحقة لـ “سماء منتصف الليل” في جوف الفضاء المهيب حتى قبيل أن تصبح فيلماً سينمائياً. فهي الساحة الوحيدة التي باتت آمنة وتحتضن أطواق النجاة. لقد قدم فيلم “سماء منتصف الليل” رسالة إنسانية أكثر شمولية للتضامن في مواجهة الكارثة، حيث جرى التركيز على الشخصيات التي تخاطر بنفسها في مواجهة الشدائد. وتم رسمها بوضوح ودقة. لقد كادت “سماء منتصف الليل” أن تتلاشى في ظل العالم المُوشك على الغرق، لكنها حتى هذه اللحظة لا تزال تلهم الجميع بالضوء والأمل عبر نجومها البراقة. ما زالت تخفي الكثير بين طياتها، وترشدنا عبر نجومها المتناثرة إلى سبل الخلاص والنجاة. فهي تخاطب كل باحث عن الأمل وكل راغب في الحياة، حتى وإن كانت حياة لا ندرك ملامحها بعد، لكنها إرادة البحث عن الخلاص ومراجعة الأخطاء ورفض الوصول إلى المحطة الأخيرة في خنوع واستسلام.