ما وراء الكلمات

كتب بواسطة يعقوب الريامي

أعاد ضبط عمامته الثلجية ، مسد لحيته ثم قال لحفيده الشاب :

– هيا انطلق بنا لنرتشف رحيق العبر والفوائد من السيرة الذاتية للشيخ القاضي محمد بن سيف الفارسي في كتابه ” حياتي ”  .

رد الحفيد :

– نعم جدي .. توقفنا بالأمس عند فصل حكايات شتى وقصص .

سأكمل .. يقول المؤلف : 

((  قيل لما أراد العلامة جميل بن خميس السعدي -رحمه الله- تأليف قاموس الشريعة قال لأهله تأتي له بغدائه في مسجده .

وكانت امرأته حاملا فوضعت ابنة ، ولا يأتي البيت إلا ليلا قدر ما يقضي حقوق الزوجية .

فمكث سنينا وهو مكب على التأليف ، وفي ذات يوم دخلت عليه في المسجد ابنته مراهقة أو بالغة الرشد فسألها ..

فقالت : أنا ابنتك فلما خرج كعادته إلى منزله ، سأل زوجته فقالت : هي ابنتك التي كنت حاملا بها لما دخلت المسجد للتأليف .

فاستدعى بأحد أقاربه وزوجه إياها ، وبقي مكبا على التأليف حتى نحلت أصابعه من قبضة القلم فألفه تسعين جزءا . ))

 

عند آخر كلمة علق الجد معجبا :

– أكرم بها من نفس عظيمة ، أفنى عمره وأجهد جسده خدمةً للعلم . 

رفع الحفيد رأسه وراح يتأمل كلمات جده ، فقد اضطرم في رأسه أمر ما ، تحول بعد ذلك إلى كلمات احتبست في فمه .. ، حين استشعر جدار الرهبة يريد أن ينقض قال بحماس :

– جدي لست مقتنعا بهذه القصة .

رفع الجد حاجبيه مستنكرا :

– أوضح كلامك .. .

رطب الحفيد جفاف حلقه ببلع ريقه :

– تبدأ القصة بلفظة ( قيل ) وهذا يشي بأنها مجهولة المصدر لا سند لها ، ولا تخلو من الصنعة والمبالغة .

رد الجد بامتعاض :

– يا بني ليس هناك من يجرؤ على التقول والكذب في حق العلماء ، ومن فعل ذلك فقد أتى شيئا إدا .

– لا أتفق معك .. فـنبينا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وضعت له أحاديث هو منها براء ، فكيف بمن هم دونه ،  ثم إن كتب التاريخ والسير تم حشوها بقصص وروايات تاريخية لا يقبلها العقل ولا الذوق السليم ، وتخالف أبسط مبادئ العلم الحديث ، وأكثر من ذلك أنها تصطدم مع نصوص صريحة في القرآن الكريم .

 

تكاثفت التجاعيد على وجه الجد ..

 

استطرد الحفيد كلامه :

–  لا يعقل أن الشيخ لا يعلم أن زوجته وضعت مولودا وهو حدث اجتماعي كبير لا بد أن يصله خبره ، فإذا قلت لي إنه ربما علم بذلك لكن انشغاله بالتأليف نهارا في المسجد أنساه ذلك ، لكن بماذا سترد على عدم معرفة شأن ابنته في تتابع مراحل عمرها من الطفولة إلى البلوغ ؟ . أقول هنا إنه ليس مقبولا أن تمر عليه أعوام وهو لا يلتقي بابنته ولا يسأل عن كسوتها و صحتها وتعليمها ، أليس هذا إجحاف في حقها بالرغم من التناقض الجلي في كونه يرتاد بيته ليلا ؟ .

قال الجد وهو يهرش رأسه :

– أنا أعتقد أن مثل هذه الحكايات عادة ما تكون قصيرة جدا وبعيدة عن التفاصيل ، إذ إن الذي يراد للقارئ هو أحداثها الرئيسة ، أما غير ذلك فليس ذا جدوى ، فالعبرة في مغزى القصة .

الحفيد :

– أنا أحاكم النص ظاهريا كما وصلنا , كذلك يبدو لي من القصة أن الشيخ لا يسعى في النهار لطلب الرزق ، وهذا يلصق به صفة التواكل التي تتنافى مع منزلته العلمية وكونه قدوة لمن حوله , فأعجب كيف يعول أهله ويمدهم بالقوت ؟ .

زفر الجد هواء الضيق : 

– ما يدريك لعل من أقربائه المقربين من كفاه القيام بهذه المهمة ليتفرغ لمشروعه العظيم ؟ أو إنه كان ذا ثروة ، تأتيه الأموال رغدا متى شاء .  

أطرق الحفيد قليلا ثم أكمل :

– أليس ما يدعو للغرابة أن بنت الشيخ لم تحمل الغداء لأبيها إلا حين بلغت سن الرشد ؟ ، بمعنى أنها لم تساعد أمها وهي في استطاعتها .

بدا صوت الجد أكثر حدة : 

– ربما أرادت الأم سلامة ابنتها لبعد المسافة من البيت إلى المسجد أو لأسباب صحية حالت بينها وبين القيام بهذه المهمة قبل بلوغها .

أرسل الحفيد نظره في الكتاب مجددا :

– وجملة ” فاستدعى بأحد أقاربه وزوجها إياها ”  توحي بأمرين ، الأول أنه يرغب في التخلص من ابنته حالا ، والثاني أن الزواج كان سريعا بحيث لم يستشرها في موافقتها لقريبه .

نفذ صبر الجد فقال مغضبا :

– حسبك هنا .. لقد أخذت تشطح في تأويلك وتشط في أفكارك ، ملقيا بالتهم جزافا على الشيخ الجليل .

الحفيد برباطة جأش :

– لست كما تظن يا جدي العزيز .. فأنا أرد هذه القصة وأدحض أحداثها ، بحجة أنها تنتقص من مكانة الشيخ وتسيء إليه . كما أنه ليس لك مصادرة فكري , فمن حقي أن أكون قارئا وناقدا ، والحوار بيننا سجال ! .

 

 

أدب الثامن والأربعون

عن الكاتب

يعقوب الريامي

كاتب عماني