ذاكرة القرنفل

كتب بواسطة يعقوب الريامي
download

صورة تجمع جميع الطوائف التي كانت مستقرة في زنجبار من عرب و أفارقة وآسيويين وشيرازيين وانجليز وغيرهم

حين ضج رأسه بالتفكير ، راح يبحث عن أبيه ، فهو الوحيد الذي سيروي ظماءه بماء الحقيقة .

وجده مختفيا خلف الجريدة يلاحق سطورها باهتمام .

جلس قبالته بهدوء ، فوقع بصره على الملاحق منثورة أمامه ، فالتقط أحدها ثم قال :

– أبي ..  بالأمس ذهبنا سويا لزيارة المعتل جارنا العجوز ، منذ ذلك الوقت وجدي رحمة الله يطرق ذهني بأسفين الاسئلة ، فأنا لا أعلم عنه شيئا ولم أسمع لك منه ذكرا ، فمثلا حدثني عن سبب وفاته .

شعر برعدة خفيفة لمشهد أبيه وهو يشيح الصفحات بانفعال ، مطلقا نظرات رصاصية .

ظل الأب صامتا لفترة ، وعينيه الساهيتين تشيان بأنه يحلق في زمن بعيد مازالت أحداثه ترن في ذاكرته .. .

حين عاد إلى واقعه أجاب بصوت جاف :

– قتله عبيد كارومي .

أعتلت الأبن صفرة خانقة ، فصرخ :

– ماذا ؟ .. مقتول .. هذا أمر مريع .

لم يدر في خلد الأبن يوما أن في عائلته من سفك دمه قهرا ، فتأججت في صدره مشاعر الحقد ، فقال :

– من هذا عبيد ؟ هل تقصد بائع السمك في سوقنا ، المشهور بغلظته ؟! .

أنفعل الأب فنزع المحلق الرياضي من بين يدي ابنه وقال بحدة :

–  تحفظون مشاهير الكرة والمصارعة ، ولا تعرفون قادة التاريخ ، أف لهذا الجيل الهزيل .. أذهب وأقراء عنه .

* * * * * * * *

كانت صفحة العلامة جوجل في المساء تشع على وجهه بضوء باهر ، وفي النهار يجول بين رفوف المكتبات الأهلية ، مطلعا وباحثا .

حين امتلأت جعبته فهما بتاريخ العرب في زنجبار ، وبتفاصيل حكم السلاطين العمانيين لها .

قال لأبيه بثقة :

– سأذهب هذا الصيف إلى زنجبار ، لأبحث عن جدي .

كشف الأب عن ابتسامة ساخرة :

– تقصد تبحث عن عظامه .

رد الأبن :

– بالتحديد عن أحفاده أو كل ما يمت إلى عائلته الثانية هناك .

الأب وهو يمسح وجهه بيده كعادته عند كل أمرا جلل .

– يا بني .. جدك ذهب إلى زنجبار قبيل  الانقلاب الدموي الذي قاده جون أكيليو مع  عبيد كارومي رئيس الحزب الأفيروشيرازي ، أستطيع أن أجزم أنه لم يذق فردوس أفريقيا .

تنهد قليلا ثم أستطرد حديثه ..

جدك ذهب جائعا ليشبع قتلا . لقد رحل وأنا في العاشرة من عمرى .

كل ما وصلنا منه رسالة كتبها بيده .. استلمناها ممن عادوا إلى عمان إبان التصفية العرقية .

 انتظرني قليلا سآتيك بها…

* * * * * * * * *

 إلى أهلي و أحبابي ..

لا تلوموني على قصر رسالتي هذه فأصابعي لا تكاد تقوى على الإمساك بالقلم فقد أرجفها الخوف من الفتنة .

ها أنا الأن محصورا في كوخ ، أكاد أسمع وقع أقدام الزنوج الثائرين القادمين من البر الأفريقي ، يحملون السيوف والعصي الغليظة ، يقتلون بدم بارد و يهشمون العظام بلا رحمة .

يقتلون كل أحد ما عدا الانجليز .. ! .

حين أستحر القتل في المدينة لجئت إلى البحر للهرب ، فكنت كالمستجير من الرمضاء بالنار ، فهؤلاء الغوغائيين راحوا يغرقون المراكب ويجهزون على العزل في البحر .

 أكاد أجزم أني لن أنجو من مجزرة الانقلاب لذا أعلمكم أني لم أتزوج من الساحل ، وليس لدي مزرعة .

 إذا اكتمل هذا الشهر ولم أعد إليكم فايقنوا أني في أحد المقابر الجماعية ! .

 نطلب منكم النُصّرة ، فإن عجزتم فدعاءكم إلى الله العزيز الجبار أن لا يشمت بنا الأعداء .

 اسأل الله الرحيم أن يلهمكم الصبر والسلوان أما و أبا و زوجة وأبناء وأخوة .

سالم

الأحد   ١٢ يناير  ١٩٦٤م .

أدب الخامس والأربعون

عن الكاتب

يعقوب الريامي

كاتب عماني