حين ضج رأسه بالتفكير ، راح يبحث عن أبيه ، فهو الوحيد الذي سيروي ظماءه بماء الحقيقة .
وجده مختفيا خلف الجريدة يلاحق سطورها باهتمام .
جلس قبالته بهدوء ، فوقع بصره على الملاحق منثورة أمامه ، فالتقط أحدها ثم قال :
– أبي .. بالأمس ذهبنا سويا لزيارة المعتل جارنا العجوز ، منذ ذلك الوقت وجدي رحمة الله يطرق ذهني بأسفين الاسئلة ، فأنا لا أعلم عنه شيئا ولم أسمع لك منه ذكرا ، فمثلا حدثني عن سبب وفاته .
شعر برعدة خفيفة لمشهد أبيه وهو يشيح الصفحات بانفعال ، مطلقا نظرات رصاصية .
ظل الأب صامتا لفترة ، وعينيه الساهيتين تشيان بأنه يحلق في زمن بعيد مازالت أحداثه ترن في ذاكرته .. .
حين عاد إلى واقعه أجاب بصوت جاف :
– قتله عبيد كارومي .
أعتلت الأبن صفرة خانقة ، فصرخ :
– ماذا ؟ .. مقتول .. هذا أمر مريع .
لم يدر في خلد الأبن يوما أن في عائلته من سفك دمه قهرا ، فتأججت في صدره مشاعر الحقد ، فقال :
– من هذا عبيد ؟ هل تقصد بائع السمك في سوقنا ، المشهور بغلظته ؟! .
أنفعل الأب فنزع المحلق الرياضي من بين يدي ابنه وقال بحدة :
– تحفظون مشاهير الكرة والمصارعة ، ولا تعرفون قادة التاريخ ، أف لهذا الجيل الهزيل .. أذهب وأقراء عنه .
* * * * * * * *
كانت صفحة العلامة جوجل في المساء تشع على وجهه بضوء باهر ، وفي النهار يجول بين رفوف المكتبات الأهلية ، مطلعا وباحثا .
حين امتلأت جعبته فهما بتاريخ العرب في زنجبار ، وبتفاصيل حكم السلاطين العمانيين لها .
قال لأبيه بثقة :
– سأذهب هذا الصيف إلى زنجبار ، لأبحث عن جدي .
كشف الأب عن ابتسامة ساخرة :
– تقصد تبحث عن عظامه .
رد الأبن :
– بالتحديد عن أحفاده أو كل ما يمت إلى عائلته الثانية هناك .
الأب وهو يمسح وجهه بيده كعادته عند كل أمرا جلل .
– يا بني .. جدك ذهب إلى زنجبار قبيل الانقلاب الدموي الذي قاده جون أكيليو مع عبيد كارومي رئيس الحزب الأفيروشيرازي ، أستطيع أن أجزم أنه لم يذق فردوس أفريقيا .
تنهد قليلا ثم أستطرد حديثه ..
جدك ذهب جائعا ليشبع قتلا . لقد رحل وأنا في العاشرة من عمرى .
كل ما وصلنا منه رسالة كتبها بيده .. استلمناها ممن عادوا إلى عمان إبان التصفية العرقية .
انتظرني قليلا سآتيك بها…
* * * * * * * * *
إلى أهلي و أحبابي ..
لا تلوموني على قصر رسالتي هذه فأصابعي لا تكاد تقوى على الإمساك بالقلم فقد أرجفها الخوف من الفتنة .
ها أنا الأن محصورا في كوخ ، أكاد أسمع وقع أقدام الزنوج الثائرين القادمين من البر الأفريقي ، يحملون السيوف والعصي الغليظة ، يقتلون بدم بارد و يهشمون العظام بلا رحمة .
يقتلون كل أحد ما عدا الانجليز .. ! .
حين أستحر القتل في المدينة لجئت إلى البحر للهرب ، فكنت كالمستجير من الرمضاء بالنار ، فهؤلاء الغوغائيين راحوا يغرقون المراكب ويجهزون على العزل في البحر .
أكاد أجزم أني لن أنجو من مجزرة الانقلاب لذا أعلمكم أني لم أتزوج من الساحل ، وليس لدي مزرعة .
إذا اكتمل هذا الشهر ولم أعد إليكم فايقنوا أني في أحد المقابر الجماعية ! .
نطلب منكم النُصّرة ، فإن عجزتم فدعاءكم إلى الله العزيز الجبار أن لا يشمت بنا الأعداء .
اسأل الله الرحيم أن يلهمكم الصبر والسلوان أما و أبا و زوجة وأبناء وأخوة .
سالم
الأحد ١٢ يناير ١٩٦٤م .