الطفرة السكانية وسمات النمو الحضري في عمان (2)
الطفرة السكانية:
يمكن تقسيم التحضر في دول الخليج (ومنها السلطنة) إلى مرحلتين، مرحلة التغير البطيء وهي مرحلة ما قبل اكتشاف النفط. ومن أهم خصائص تلك المرحلة أن المدن في تلك الفترة كانت صغيرة، وبعضها كان يحيط به سور له بوابات ، وأن نسبة قليلة من السكان يعيشون فيها، وكانت درجة التجانس والترابط بينهم عالية.
كانت نسب التحضر في تلك الفترة تتراوح بين 10% إلى 30% أما بقية السكان فكانوا يعيشون في الأرياف والبوادي، مع اختلاف النسبة من دولة إلى دولة خليجية أخرى، وكان سكان المدن يعتمدون في دخلهم على الوظائف الرسمية وعلى التجارة، وعلى الحرف اليدوية والنقل، ولم يكن هناك عمالة أجنبية كبيرة. كانت منتجات الحضارة تنتشر ببطء خلال تلك الفترة مثل السيارات، والمذياع، وأدوات الطبخ، وكان الكثير من السكان يترك أسرته في البادية أو في الريف لحاجة أسرته الممتدة إلى أفراد أسرته النووية في العمل الزراعي والرعي أو الصيد ، وقد نمت المدن في تلك الفترة ببطء شديد.
ومع ظهور النفط تضاعف دخل دول الخليج، وبدأ ما عرف بمرحلة الطفرة السكانية، وبدأت مرحلة التغير الحضري السريع، حيث تسارعت وتيرة الهجرة من الأرياف والبوادي إلى المدن، لكثرة عوامل الجذب في المدن مثل الوظائف، والخدمات المختلفة، وكثرة عوامل الطرد في الأرياف والبوادي، وبدأت المدن تتوسع بسرعة كبيرة، حتى تضاعفت مساحاتها، وتضاعف سكانها عدة مرات خلال ثلاثة عقود ونصف تقريباً.
وخلال العقود الأربعة الماضية شهدت السلطنة حالها كحال بقية الدول في منطقة الخليج ارتفاعا في معدل النمو السكاني نتيجة الهجرة من المناطق الريفية إلى المدن الكبيرة فاصبح أكثر من 75% تقريبا يعيشون في المدن الحضرية وأن عدد المساكن في الفترة (2003م – 2010م) قد ارتفع بمقدار 120.062 مسكن حسب نتائج التعداد العام للسكان والمساكن في عام 2010م. وفي ضوء هذه الاحصاءات فأن التحديات والمشكلات البيئية التي تواجه المدن وخصوصًا الكبرى منها تتعدد وتتنوع (مثلما ورد في الجزء الأول من المقال) بدءً بعمليات التخطيط الحضري والعمراني وتوفير المسكن الملائم وما يتطلبه من خدمات ومرافق الماء والصرف الصحي , وتصريف الأمطار والنظافة والتخلص من النفايات وتأمين الأسواق والطرق العامة والإضاءة وتجميل المدن وانشاء الحدائق العامة وأماكن الترويح فضلاً عن وسائل المواصلات والاتصالات وحماية البيئة من التلوث.
سمات النمو الحضري في عمان:
وكنتيجة لتلك الطفرة السكانية وعدم وجود توسع عمراني ذو بعد استراتيجي واضح فقد تميز النمو الحضري في عمان بالآتي:
– أغلب الأشكال الحضرية في المدن العمانية مبعثرة وهياكل التسوية فيها غير مكتملة وذلك ليس فقط في مناطق التوسع العمراني لمحافظة مسقط وإنما يمتد ذلك إلى أغلب مناطق التحول الحضري في عمان.
– انتقل غالبية السكان من المحلات العمرانية القديمة (مراكز المدن القديمة والقرى) الى المناطق المفتوحة.
– المخططات الحضرية الحديثة لا تراعي كفاءة المناطق واختصاصها ووظيفتها المحيطة المألوفة، بل يتم إنشاءها بشكل عشوائي متى ما توفرت المساحة لإيجاد المخطط.
– عدم مراعاة الطبيعية الجغرافية والجيولوجية للمنطقة أحيانا ، مما أوجد بعض المخططات السكنية في مجاري الأودية أو في أماكن تكدس الكثبان الرملية أو السبخات.
– إهمال المناطق الحضرية القديمة ، مما أدى إلى اندثار بعض المباني الأثرية والأسواق التقليدية المهمة واندثار الأفلاج، وتهميش الحيازات الزراعية وخصوصا مزارع النخيل.
– عشوائية نقل استخدامات الأرض في بعض المناطق ، فتتحول المساحات الزراعية بين ليلة وضحاها إلى استخدامات سكنية وتجارية واحيانا صناعية.
– أغلب المخططات الحديثة لا تنسجم مع التمدد الطبيعي للمدينة ، فبينما تمتد الملكيات الخاصة (الفضاء) بمئات الأمتار في قلب المدينة حيث تتوفر أغلب الخدمات، تنشأ المخططات الحديثة في أطراف المدن خالية من الخدمات.
– تتركز أغلب المخططات الحديثة بالقرب من الطرق الرئيسية ، مما يؤدي إلى ازدحامها بشكل تدريجي ويعيق التوسع في تلك الطرق مستقبلا.
– بناء وحدة سكنية خاصة أو فيلا واحدة على قطعة أرض مسورة أصبح نمط الحياة السكنية المفضلة في عمان مع ما تواجهه هذه السمة من محدودية الموارد التي تتعلق أساسا بالأرض.
– نسبة كبيرة جدا من السكان يستقر في مكانين أو أكثر وذلك نتيجة لاختلاف مكان عملهم عن مقر إقامتهم الدائم ، مما يشكل ضغطا أكبر من حيث ضرورة توفير الخدمات الأساسية في التجمعات الحضرية. وهذا ربما ما يفسر الطلب المتزايد للأراضي والخدمات مقارنة بعدد السكان.
– عدم الاهتمام بالمظاهر الثقافية كالساحات والميادين والمعارض وذلك على عكس المدن العالمية، حيث يختفي المتحف في أغلب المدن الرئيسية في بلد التراث ، وتختفي المكتبة في بلد ذات أرث علمي متجذر ، وتختفي الشوارع والمراكز الثقافية حتى في العاصمة مسقط.
– توزيع المخططات الحديثة لا يراعي أهمية وجود أماكن للترفيه في المدن، مما يجعل غالبية السكان تلجأ إلى الدول المجاورة أو السفر وتنفق المئات من الريالات على مثل هذا النوع من الرحلات.
النموذج الحضري العماني القديم:
أن شكل المدينة العمانية قديما كان نموذجا للتجمع الحضري المثالي ، حيث كانت المدينة أو القرية تضم أماكن السكن (الحارات) والقلعة أو الحصن (المقر الإداري) ، والأسواق ، ومصادر الماء (الفلج أو الوادي) ومواقع العمل (المزارع والمراعي أو البحر بالنسبة للمناطق الساحلية) في مساحة لا يزيد قطرها عن 5 كيلومترات ، وهي ذات السمات التي تتميز بها المدن الحديثة في العالم المتقدم ، والتي تهدف إلى تقديم أفضل الخدمات للسكان في وقت أسرع وبشكل أسهل وهذا هو أحد أهم أهداف التنمية البشرية عالميا. كما أن أغلب المدن العمانية القديمة تتموضع على ضفاف الأودية ، حيث تتوفر التربة الفيضية الخصبة الصالحة للزراعة ومصادر المياه (بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتي من المنتجات الزراعية والأعلاف الحيوانية في إطار مكاني محدود) مع تأمين الحماية اللازمة من السيول وفيضانات الأودية.
إلا أن فقاعات التحضر الحديثة لم تستفيد من ذلك النموذج العماني الأصيل ، بل أهملت أغلب الجوانب الخاصة بجغرافية المكان وبيئته الطبيعية . كما أنها لم تأخذ بالملامح الحضرية للمحلة العمرانية العمانية التقليدية فأصبح شكل المدينة العمانية مبعثر يمتد لعشرات الكيلومترات دون ملامح، بعد أن كان بؤرة تحمل هوية المجتمع وترتكز على مجموعة من مقومات الاستقرار البشري ، مما كان له أغلب الأثر في تحول المجتمع سريعا من مرحلة التجانس إلى مرحلة اللاتجانس.
وفي ظل الطلب المتزايد على الأرضي أصبحت المخططات تتوزع بشكل متسارع وغير مدروس خارج أطار المدينة التقليدي مما خلق اشكاليات جمة من حيث التزايد المستمر في المطالبة بالخدمات الرئيسية كالطرق والكهرباء والماء ، أو المطالبة بإنشاء سدود حماية وتعويضات مالية نتيجة وجود تلك المخططات في أماكن عبور السيول والأودية ، أو تفاقم مشكلة الازدحام المروري في المراكز الادارية للمحافظات نتيجة بعد المخططات الحديثة عن الأسواق ومراكز المدن، ومن ثم يقطع المواطن عشرات الكيلومترات بالسيارة بشكل شبه يومي للوصول إلى الأسواق الرئيسية أو المستشفيات أو مراكز الخدمات الحكومية.
وكنموذج لتلك الخصائص والسمات الحضرية يمتد التجمع الحضري في مسقط العاصمة مثلا لمسافة تزيد عن 100 كيلومتر وهي مدينة شريطية تتجانس معماريا وعمرانيا مع التضاريس والطبيعة الجغرافية إلا أنها تفتقد إلى البؤر الحضرية السكنية التي من الممكن أن تكتفي بذاتها مما جعل التنقل اليومي بالسيارة أمر حتمي، مع إهمال واضح للتوسع باتجاه الهضاب والجبل والتركيز على الوديان والسهول. وهو ما يخالف أيضا الإرث المعماري العماني الذي شكلت فيه البؤرة الحضرية النموذجية المكتفية بذاتها (القرية) مكانا للسكن ، وشكلت سفوح الجبال وضفاف الوادي أحد المواقع المهمة لإنشاء المحلات العمرانية ذات الحدائق والمزارع المعلقة وخصوصا في المناطق الجبلية أو تلك المطلة على سفوح الجبال.
وعلى الرغم من أن (مسقط) مدينة مازالت تحتفظ بالشخصية العمانية وملامحها وهويتها وثقافتها وخصوصا في أشكال المباني والألوان المستخدمة إلا أن النمو العمراني لا يوحي بوجود رؤى استراتيجية محددة ومعلنة لأوضاع مستقبلية مناسبة لتوزيع الأنشطة واستخدامات الأرض في ظل انفجار سكاني متسارع وزيادة طردية في أعداد السيارات التي تعتبر الوسيلة الرئيسية وربما الوحيدة للنقل. وأن كانت هناك خطط غير معلنة في هذا الجانب فيجب عليها مراعاة التوازن بين احتياجات التنمية في الحاضر والمستقبل والأخذ بما وصل إليه العالم في هذا المجال، بما يحقق مبادئ التنمية المستدامة والتوازن بين الرغبات من ناحية وبين محدودية الموارد من ناحية أخرى وخصوصا فيما يتعلق بتوفر الأرض ووسائط النقل العام، مع ضرورة وضع تلك الخطط في إطار تشريعي وقانوني واضح وملزم ومن خلال عمليات وإجراءات محددة وبتـنسيق وضمان مشاركة مجتمعية كاملة.
يتبع …
ملاحظة: تم جمع بعض البيانات من بعض المواقع الحكومية ذات الصلة.